أنا أفشل من يرشح أو يهدى كتباً للآخرين. أقول هذا لأن أول خطوات تجاوز الأخطاء هي الإعتراف بها، ومع ذلك لا أتوقف عن تكرارها، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالكتب الفنية والمتحفية المصممة والمطبوعة بالأساس لتكون هدايا، قطعة ديكور منزلية، وأيقونة على الرف تسر الناظرين.
أصنّف كتب الهدايا إلى ثلاثة أنواع رئيسية، وقد تعلمت التوقف عن إهداء نوعين منها والاكتفاء بالنوع الثالث، وهى الكتب التي أجد صعوبة بالغة في مقاومة رغبة شرائها أينما قابلتنى، رغم ارتفاع أسعارها. الكتب المتحفية هي كتب مطبوعة بالألوان على ورق مصقول غالباً. اشتريت أول كتاب من هذا النوع، حينما كنت في المرحلة الثانوية، وكان مجلداً ضخماً يوثق بالصور فعاليات وأنشطة دار الأوبرا المصرية بعد خمس سنوات من افتتاحها. وجدته لدى بائع جرائد وكتب في المنصورة، وظللت لأشهر أمرّ عليه، أتفقد الكتاب، وأحياناً أستغلّ عدم انتباه البائع لأقلّب في الكتاب وأتحسس ملمس أوراقه المصقولة. وحين كان يراني، كان يواجهني: "إذا كنت لن تشتري الكتاب، فأعده إلى مكانه حتى لا يتفسخ تجليده". أخيراً، اشتريت الكتاب بـ15 جنيهاً مصرياً، وكان هذا في العام 2000، ليصبح أغلى كتاب اشتريه في حياتي وقتها.
هذه الكتب لا تُطبع أو تُقتنى بغرض القراءة أصلاً، قد يوجد معها نص قصير، وتحت الصور تعليقات توضح تفاصيلها. أشعر أن الكلمات في تلك الكتب يتم تنضيدها وطباعتها للتأكيد على كونه كتاباً، وليس مطبوعة بصرية.
استمر ذلك الشغف بالكتب الملونة مع التقدم في العمر. لم يكن من السهل العثور عليها في مصر، فهي لا تنتشر في المكتبات العربية بالشكل الكافي، ودور النشر العربية المعدودة التي قد تطبع كتاباً كهذا كل عامين أو ثلاثة، تبيعه بأسعار مضاعفة ومبالغ فيها. لذا لم يكن هناك سوى انتظارها كهدايا، وكلما سافرت صديقة للخارج، طلبتُ منها إن أمكن كتاباً كهذا.
يعبّر إهداء الكتب المتحفية عن قيمة حميمة خاصة. فاختيار الكتاب وموضوعه، يكون منبعه على الأغلب ذوق واهتمامات المُهدى إليه: "أعرف أنك تحب فان غوخ، لذا هذا كتاب متحفي يحتوى صوراً لأعماله".. "أعجبنى مقالك عن مايكل جاكسون، لذا هذا كتاب يوثق صوره وأهم الملابس التي ارتداها وتأثيرها في صناعة الموضة". في أحيان أخرى، يكون الكتاب رسالة خفية، مثل كتاب فوتوغرافيا صغير في حجم "كارت بوستال"، وبينما تقلّب فيه، تجد رسالة من ثلاث كلمات محيرة، في صفحة تحتوى على صورة قُبلة بين رجلين في الحديقة.
حين تهدي كتاباً من هذه النوعية، فهو أشبه بإهداء قطعة أثاث. سيتواجد الكتاب على طاولة القهوة أو الصالة، وإذا وُضع في المكتب، فسيكون بارزاً بحجمه أو جِلدته السميكة. المحترفون يشترون مسنداً مخصصاً لهذه الكتب في رف المكتبة، حيث يوضع الكتاب مائلاً، مفتوح الصفحات، ليكون محتواه الفنى معروضاً للعيون، مثل لوحة يمكنك تقليب صفحاتها.
***
أن تهدي كتاباً فنياً، فهذه رسالة صامتة قابلة للتأويلات المختلفة. والأهم، أنها لا تطالب المهدى إليه أن يترك شاشة موبايله والفايسبوك ليقرأ، بل تمنحه أحياناً مواد، من صور ولوحات مدهشة، ليصوّرها ويشاركها في صفحات السوشيال ميديا، ثم يجلس ليراقب عدّاد اللايكات.
لكن أن تهدي كتاباً بلا لوحات ولا رسوم، كتاب مغلق لا يمكن أن يفصح عما فيه إلا عبر القراءة، فهذه جرأة تحتاج إلى مقدار كبير من الثقة في النفس. وهو ما لا أملكه، لذا من النادر أن أفعله.
***
أقف أمام المكتبة أنقل عينيّ بين عناوين الكتاب، والحيرة تتصاعد في داخلي تجاه أي كتاب سأختاره كهدية. تفكر في الكتاب والشخص المهدى إليه، تفكر في الظنون المختلفة، كيف سيستقبل هديتك؟ ماذا إذا لم يعجبه الكتاب؟ ثم كيف يمكن أن تدرك ذوقه في القراءة؟
مخاطرة كبيرة تحفّ بقرار إهداء كتاب لشخص ما. لكن لربما كانت هذه هواجسي أنا. لأني في المقابل أحب أن أتلقى هدايا الكتب، بل أطلبها.
أن يأتيك كتاب كهدية، فهي دعوة إلى مكان مجهول، وغالباً بعيداً من ذائقتك. أجمل ما في الكتب الهدايا، أنها غالباً عناوين يستحيل أن أشتريها أو أقرأها. لدى الواحد لائحة طويلة بالقراءات التي يريد إنجازها، وهى لائحة يحتاج إنجازها سنوات. لكن الكتاب الهدية، هو انعطافة مفاجئة عن هذا الطريق المرسوم، هو لغز، صندوق أسود على عتبة الباب، تفتحه في توجس، لا تعرف هل يكون قنبلة من السأم، أم ثقباً يبتلعك لعالم لم تتوقعه أو تتخيل وجوده.
أضع الكتب المهداة على رف، أو في ركن خاص. قد يظل كتاب في ذلك الركن سنواتٍ طويلة، ولا أزور هذا الركن إلا في لحظات الملل والبحث عما يكسر المسار. أتناول كتاباً بشكل عشوائي، وبعد بضع صفحات أسبّ الدين لمن أهدانى الكتاب، لأنه ليس على ذائقتي المعتادة. لكني، مع ذلك، أستمر في القراءة وأنا مستفَز وكاره للكتاب، لكني أستمر في القراءة لأن هناك جواهر صغيرة ألتقيها في الطريق، ولأن في الكتاب المغاير لذائقة المرء ما يجبره على إعادة التفكير في موقعه، وفي ما يعتقده، واعتباراته.
***
أما النوع الثالث والأخير وأخطرها جميعاً، فهو كتب الشعر. وعبر حياة تتجاوز الـ35 عاماً، محاطة بالمعارف والأصدقاء من كتّاب وفنانين وشعراء، لم أتلقَّ أبداً كتاباً شِعرياً كهدية، إلا إذا كان من شاعر يهديني كتابه.
لا تحضر كتب الشعر كهدية إلا في إطار علاقة علاقة عاطفية أو غزل، في الإرهاصات الأولى ما قبل الاعتراف. وفي أزمنة الصبا، قبل اكتشاف الطبيعة المعقدة للعلاقات العاطفية، يكون إهداء قضية للمحبوب أو كتاباً شِعرياً، بمثابة هارون المصاحب لموسى: "حبّك يعقد لسانى، وديوان الشعر هذا ربما يحل عقدة لساني ويجعلك تراني". لكن في الأمر مخاطرة، كأن تكون المهدى إليها الديوان غير مُحبة للشعر، أو تستصعب ذوقك الشعري، أو يأتيك رد مثلما أتاني ذات مرة: "هذا نثر وليس شِعراً". حينها تستفيق من عمى الحب، وتدرك أنه لربما كان اختيارك خطأ.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها