فور ظهور الإعلان، بدأت اللجان الالكترونية بمشاركته ونشره في الإنترنت، كما تطوعوا لترجمته ونشره بالانجليزية بمنتهى الفخر القومي، مع سعادة مدهشة طفحت في منشوراتهم. الجميع سعيد وفخور بقدرة مصر على بناء مثل تلك السجون الضخمة الكبيرة العظيمة الجميلة المشرّفة.
لكن السؤال المعلق هو: لماذا تنفق الدولة المصرية أموالها على حملة اعلانية ترويجية لسجن جديد؟ ما الذي يفترض أن يحركه الإعلان داخل المُشاهد؟ هل المطلوب أن يتصل المُشاهد فوراً بإدارة السجن ليسارع بشراء وحدته السكنية؟ هل من المفترض أن يشعر المواطن بالتحسن في حياته وأوضاع حقوق الانسان في مصر وهو يشاهد إعلانات السجن الفندقي، في الوقت الذي منعت فيه الدولة نشر صور تلامذة المدارس في الفصول المتهالكة وهم يجلسون على الأرض أو فوق بعضهم البعض؟
وأيضاً: إلى من تتوجه الدولة المصرية بهذا الهراء الذي تنتجه في الشهور الأخيرة، مثل استراتيجية حقوق الإنسان، والإلغاء الشكلى لحالة الطوارئ، وأخيراً إعلانات السجون؟
من جهة أخرى، انتهى شهر العسل الذي دام أربع سنوات، بين السيسي والإدارة الأميركية زمن الرئيس دونالد ترامب الذي منحه لقب "ديكتاتوري المفضل". وجاءت إدارة الرئيس جو بايدن، وعلي رأس ملفاتها مع مصر، ملف العلاقات العسكرية المصرية الروسية وأوضاع حقوق الإنسان.
يعبّر هذان الملفان عن موقف يتشكل تجاه مصر في الدوائر السياسية الأميركية، منبعه قلق الحليف الأميركي الأقوى للقاهرة، وزارة الدفاع الأميركية وشركات السلاح، من شراء مصر أسلحة متطورة من روسيا. وبالنسبة للعسكريين، تمثل مصر ونظام حكمها العسكري، استثماراً اقتصادياً وسياسياً لا يمكن التخلي عنه بسهولة، رغم كل الضغوط. فمنذ الثمانينيات، تمنح واشنطن مصر مساعدات عسكرية سنوية، تتجاوز المليار ونصف المليار دولار، تذهب إلى شركات السلاح الأميركية التي تصدّر السلاح والتدريبات العسكرية للجيش المصري، وبالتالى محاولة مصر التلاعب في هذا الملف يمثل ضرراً لكل المستفيدين من "بزنس" المساعدات العسكرية في الولايات المتحدة.
أما في ملف حقوق الإنسان، فالواضح أن الولايات المتحدة تتغير داخلياً، وهناك نمو لما يطلق عليه "التيار التقدمي" داخل الحزب الديموقراطي والذي أصبح قوة لا يستهان بها في الحزب، تجبر بايدن على تقديم تنازلات لصالحهم. وملف التفاوض بين ذلك التيار والحرس الديموقراطي القديم، يضم ملفات عديدة معقدة ومتشابكة، تبدأ من خطط مكافحة التغير المناخي، إلى ملف العدالة العرقية والمهاجرين في الولايات المتحدة، لكن إدارة بايدن ترى أن تقديم إشارات إيجابية لهذا التيار في ملف السياسية الخارجية ورقة لن تكلفهم كثيراً. فمثلاً أن يمر ما يقرب العام من دون أن يلتقي بايدن بالسيسي أو يرفع سماعة التليفون ليحادثه، سوى مرة واحدة، خطوة ايجابية تبعد الصداع عن رأس بايدن، بعكس لو استقبل السيسي أو قابله، حيث ستنقلب الجبهة التقديمة داخل الحزب عليه وتسبب له صداعاً لا حاجة له.
وهكذا، وجد السيسي كل طرق وقنوات التواصل شبه مقفلة، حتى بعدما تدخلت في مصر في ملف الحرب الأخيرة على غزة، وحتى بعدما توسط رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد نفتالي بينيت لدى بايدن، ظل الجفاء بين القاهرة وواشنطن، ونتيجته حتى الآن حجز جزء من المساعدات السنوية المقدمة لمصر، وتقديم مشروع قانون جديد، إذا مرّ في الكونغرس، فستكون هناك، بدءاً من العام المقبل، قواعد جديدة في تنظيم المساعدات العسكرية لمصر وعدد من الدول.
إلى ذلك، يمكن تخيل الاجتماعات المطولة للسيسي مع معاونيه ورجاله العسكريين، جالسين حول التليفون يسمعون أغنية خالد سليم "أيوه يا حبيبي اهدى واستنى، هو دا اسمه وهي دي الرنة". لكن التليفون لا يرن، وحتى مكالمات وزير الخارجية جافة وباردة، وتتحدث كل مرة عن السجون والحريات، والسيسي محتار، يطلب النصيحة ممن حوله من عسكريين، فيأتى الاقتراح الفذ بتركيب فيلتر "انستغرام" على أوضاع حقوق الإنسان في مصر.
وهكذا، في إطار احتفالية مبهرجة تم إطلاق الاستراتيجية القومية لحقوق الإنسان، وحصل إغلاق جزئي لعدد من الملفات في قضية منظمات المجتمع المدني، ورفع قرارات التحفظ عن أموال عدد من الحقوقيين، وإفراجات محدودة، وظهور لجنة الحوار الدولي بقيادة النائب السابق محمد أنور السادات. ورغم ذلك، لم يتغير موقف الإدارة الأميركية. الهاتف لا يرن والمساعدات المحجوزة لم يتم الإفراج عنها، ما يجعل السيسي مستاءً يصب كل غضبه على معاونيه الذين يهرولون في كل مكان بحثاً عن وسيلة لإرضائه وإرضاء السيد الأميركي.
يمكن الاستمرار في تخيل الاجتماع الذي قال فيه أحد الضباط: "يا ريس إحنا قريب هنفتتح أكبر مجمع سجون متطور في العالم، مش دا ممكن يكون كويس لو أبرزناه علشان حقوق الانسان". وبالفعل تبدأ ماكينة العمل باستدعاء طاقم فنانين يُطلب منهم تنفيذ عمل فني لم يُقدم مثله من قبل: إعلان وأغنية ترويجية لأحدث سجون مصر. وبالطبع يتحمس الفنانون لإرضاء حضرة الضابط، والضابط بدوره يتمنى أن يحوز الإعلان على رضى السيد الرئيس، والسيد الرئيس يتمنى أن يحوز الإعلان على رضى السيد الأميركي، ثم يندهشون جميعاً حين لا يهتم الأميركيون بكل هذا ولا يفرجون عن المساعدات.
هذا تحديداً هو قلب المشكلة العظمى التي تواجه النظام المصري، غباء السادة المستشارين والمعاونين للسيد الرئيس. يصور لهم غباؤهم أن إعلاناً على هذه الشاكلة يمكن أن يصنع فرقاً. وطوال ثماني سنوات من حكم السيسي، قام هو شخصياً، بنبذ وطرد كل من أظهر قدراً من الفهم، أو أبدى ولو اعتراضاً شكلياً على خططه الكارثية، وأحاط نفسه بمجموعة من الأغبياء تعاونهم مجموعة من الجبناء المدنيين الذين تعلموا في الجامعة الأميركية وعاشوا حياتهم في "كومباوندات" خلف الجدران، والجميع يقول: "نعم يا سيادة الرئيس".
والنتيجة هي نظام يغرق في جهله وحماقاته، حتى أصبح يفتقد لأبسط مقومات النظم السياسية، أي القدرة على إدارة حوار مع أى طرف داخلي أو خارجي، مع فقدان كامل للقدرة على فهم العالم ومتغيراته، وعجز عن الحديث أو الاشتراك في الحوار. وبالتالي، لا شيء يمكن أن يخرجه النظام سوى الاستبداد ونموذج الدولة البوليسية الجشعة وماكينة بروباغندا، أفخم ما تنتجه "إعلان للسجون" لا يصنع أى فرق سوى تأكيد ما أصبح الجميع داخل مصر وخارجها يعلمه جيداً.
هذا النظام ليس إلا مجموعة من الضباط بكرامة جريحة بسبب ثورة 25 يناير، مستوى إدراكهم محدود ويجب تجاهلهم أو التعامل معهم بحرص، لأن الضابط الغبي أخطر من الضابط الشرير.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها