عندما حصلت شبكة "نيتفليكس" العالمية على حقوق إنتاج الموسم الثاني من سلسلة "Dirk Gently’s Holistic Detective Agency" (وكالة ديرك جينتلي للتحقيقات الشمولية) التي أنتجتها "بي بي سي أميركا" العام الماضي، لم تقم فقط بإحداث تغيير دراماتيكي في بنية السلسلة الضاربة من الخيال العلمي المليء بالغرائب والتشويق نحو الفانتازيا، فقط، بل كانت تلقي بأبطال القصة عبر "حفرة الأرنب" على طريقة لويس كارول في رواية "أليس في بلاد العجائب".
ومن النادر جداً أن يلجأ يستند منتج تلفزيوني إلى عنصر الفوضى كقيمة أساسية، بدلاً من الموضوعات الأسهل، مثل الحب والصراع والانتقام وغيرها، كما أنها من أصعب الموضوعات التي يمكن معالجتها لأنها تحمل داخلها كل القيم الأخرى بشكل متضارب، لكن الموسم الثاني من العمل، الذي عرضته "نيتفليكس" مطلع العام، ينجح في الاستناد إلى الفوضى لطرح أفكار فلسفية حول الحياة والقدر والموت ومعنى الوجود بشكل عميق وممتع بطريقة تذكر بسلسلة الرعب والتشويق "أي زومبي".
والحال أن الموسم الأول للسلسلة كان حافلاً بالغرائب والماورائيات، حيث تغادر الشخصيات العادية حياتها الراكدة بحثاً عن التغيير وقتل الملل وإيجاد معنى للاستيقاظ كل صباح، قبل أن تنجرف في تيار الحياة نفسه نحو عالم واسع يتمحور حول ديرك جينتلي المتمتع بقوى خارقة غير نمطية تتمثل بقدرته على الربط بين الأمور غير المترابطة ظاهرياً للوصول إلى الحقيقة، ويشكل ذلك نقطة الانطلاق للموسم الثاني حيث تخرج الأمور عن السيطرة وتنفتح فيه العوالم الموازية على بعضها البعض، مع صراعات جانبية بين الشخصيات وشكوكها الداخلية حول معاني الحياة والذنب والندم على القرارات السابقة.
يمثل ديرك جينتلي مركز كل الجنون الحاصل نوعاً من المنطق القائم على اللامنطق، فهو نسخة عصرية هزلية من هيركيل بوارو أو شرلوك هولمز، لكنه لا يبحث عن القضايا البوليسية التي يحقق فيها بل يتعثر بها، وتقوم فلسفة حياته على السير ضمن تيار الخلق الكوني وانتظار ما سيحدث والاستجابة له لأن "الكون يريد ذلك"، بعكس أصدقائه الجدد الذين يرون الحياة من جانب الإرادة الحرة والتفكير المتأني قبل الإقدام على أي خيار مهماً كان سخيفاً، مثل: "هل يجب علينا تناول الإفطار في المنزل أم خارج المنزل؟".
وهكذا يطرح المسلسل قضية شائكة وأبدية، هل الإنسان مخير أم مسير؟ وهل هناك قوة عليا تتحكم بكل تفاصيل الحياة وترسم مسار كل كائن حي فيها أم لا، وإن كانت تلك القوى الغيبية موجودة فعلاً، فهل هي آلهة تقليدية مثلما تصور الأديان لحشود المؤمنين عبر الأجيال، أم أن العقل البشري نفسه قادر على خلق عالم بقوانين ومنطق خاص به إن توفرت له الطاقة الكافية، كأن يقع عقل بشري مبدع في غيبوبة طويلة الأمد على سبيل المثال ليخلق عالماً من الحكايات الخيالية حيث يقاتل أمير مثلي بشعر زهري اللون ساحراً شريراً من أجل سعادة مملكته، وهو محور الموسم الثاني من السلسلة، التي تندمج فيها العوالم بشكل غير متوقع تتطلب تدخل ديرك جينتلي لإعادة "النظام" إلى تيار الخلق نفسه.
وإن كان ديرك جينتلي يمثل الحياة نفسها فإن شخصية بارت تمثل الموت، فهي "قاتلة مأجورة شمولية" تطارد من عالم إلى عالم لقتله فقط، من دون أن تعرف حتى سبباً لذلك. وبقدر ما تتحلى الحياة بالعبثية والفوضى فإن الموت يماثلها تماماً بشكل دام ومروع لأن بارت تقتل أي شخص في طريقها بلا رحمة. كما أنها شخصية لا تخضع لمنطق الحياة التقليدي، فمثلاً لا تعمل أقفال الأبواب عند محاولة سجنها وتنحرف الرصاصات بعيداً عنها إن حاول أحد قتلها، والمنطق الوحيد الذي يسيرها هو "تيار الخلق" (Stream of Creation) الذي يحكم حياة ديرك جينتلي أصلاً.
ورغم أن الاعتماد على الصدف في بناء العمل الدرامي يعتبر نقيصة في المعتاد، إلا أن السلسلة تتجاهل تلك القاعدة "المملة" وتبني على نقيضها أساسات العمل بشكل كامل، وتأتي النتيجة مبهرة ومنطقية لأن الأحداث في الموسمين لا تخرج نهائياً عن ذلك المنطق القائم على اللامنطق، ليس فقط لبناء وتطور الأحداث بل أيضاً لخلق الكوميديا والخروج من مأزق الرتابة في حال وجوده. وتبرع السلسلة في تحويل السخافة إلى جزء من الفوضى والسخرية من ذلك الاستخدام ومن تصور عدم استخدامه في نفس الوقت عبر حوارات عبقرية.
بالتالي ليس من المفاجئ رؤية سيارة تسقط من السماء فجأة لتستقر على شجرة أو رؤية شخصية جديدة تقتحم الفوضى للحظات تقلب بها مسار العمل بشكل "شمولي" لتقتل عن طريق الخطأ ولا تعاود الظهور مرة أخرى، ولا يتم حتى تفسير ظهورها لأنه ببساطة لا توجد أي شخصية في العمل تدرك خلفيات ذلك الحادث الطارئ، ولأن ذلك في النهاية ليس مهماً ضمن "تيار الخلق"، ومع تراكم الأحداث وتتالي الصدف، تخلق السلسلة نمطاً غير مسبوق، تصرخ فيه كل لحظة للحياة بلا قيود وبحرية ضد كل ما هو تقليدي وضد كل إطار مجتمعي يقيد الحرية الفردية، مهما بدا ذلك صعباً، لأن الأمر في النهاية لا يتطلب سوى اتخاذ قرار جريء، كالخروج من المنزل، مع الأخذ بعين الاعتبار تحمل أي عواقب قد تنتج عن ذلك.
يذكر أن السلسلة مقتبسة عن سلسلة روايات للكاتب البريطاني دوغلاس أدامز (1952 - 2001)، وهي من تطوير الكاتب والمخرج والمنتج الأميركي ماكس لانديز، لكنها لن تعود في موسم ثالث، بعدما أعلنت "بي بي سي أميركا" و"نيتفليكس" أن الموسم الثاني منها سيكون الأخير، وهو أمر مؤسف نظراً لكونها واحدة من أكثر الأعمال التلفزيونية الناجحة أصالة وخروجاً عن المالوف.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها