للوهلة الأولى، يبدو مسلسل "الندم" أفضل ما تقدمه الدراما السورية هذا الموسم، بصورته المتقنة وكمية الأسماء المهمة التي يضمها. لكن العمل الذي يعيد الكاتب الكبير حسن سامي يوسف إلى أجواء التلفزيون بعد انقطاع سنوات، يقدم نوعاً من الرداءة المقنعة، لا يرقى معها لانتزاع الإعجاب.
والرداءة، تنسحب على المضمون السياسي. فالعمل، لا ينجو من التسييس. إذ ينظر للأزمة السورية كأنها تجري في دمشق فقط، حيث قذائف الهاون التي تلقيها فصائل معارضة على المدينة، لكنه لا يرى أياً من المدن الأخرى التي تعاني من قصف أشد من قبل النظام السوري.
وفي الوقت نفسه يقدم "عروة" (الشخصية الابرز في العمل) مجموعة من الأحكام الجاهزة حول النازحين في الحدائق، ويتعامل مع الفقراء والمهمشين بشيء من السطحية والقبح والعنجهية، فهم لا يتعدون أجزاء من الصورة الكبيرة التي تقلق راحته وحسه المرهف وتمنعه من "الإبداع" والتفرغ للقراءة والكتابة!
يمكن تقسيم العمل إلى قسمين، يدور الأول في الحاضر مع شخصية عروة وهو كاتب سيناريو محبط من الواقع المأساوي في البلاد، ومحاولته تقييم الواقع عبر أفكاره الداخلية وسيره اللانهائي في شوارع دمشق "عاصمة الياسمين"، والثاني ذكريات عروة نفسه عن ماضيه الشخصي - العائلي الذي يشكل الأسباب التي قادت سوريا إلى الدمار والحرب الأهلية، حيث الندم والحسرة على ما كان وعلى ما ضاع.
بين القسمين، ثمة فلسفة بصرية صريحة. فالحاضر المظلم المخيف صوّر باللونين الأبيض والأسود، حيث القذائف والموت والسلبية واكتئاب المثقفين، والماضي صّور بالألوان وكأنها الأيام المشرقة الجميلة التي ذهبت ولن تعود. وهو خيار مثير للاهتمام من طرف المخرج الليث حجو، يعاكس به نمطية استخدام الأبيض والأسود للدلالة على الذكريات وعدم قدرة الإنسان على التحكم بها.
وبالتالي، يقول "الندم" إن عروة لا يمكنه التحكم بالحاضر الخارج عن السيطرة أو النجاح في إصلاحه ولو حتى بكلمة أو حفنة من النقود أو بالخيال، بينما كان بإمكانه - وإمكان السوريين معه - التحكم بالماضي بشكل أفضل، ثم التحكم بالمستقبل عبر اجترار ألوان الماضي، أي تجنب الأزمة بإلغاء أسبابها الأولى أو "سماع صوت العقل"، مع استشفاف طرح الأزمة في المسلسل كنتيجة لأسباب خارجية، سياسية ربما، وعليه يكون الحل هو عدم الانجرار وراء عواطف "التمرد" والرضا بما هو موجود والسكوت عن كل القبح والظلم الموجود في البلاد، ويصبح الخطأ في الشعب لا في نظام الحكم وطريقة إدارته للبلاد.
انكفاء سامي يوسف في نصه المتلفز على ذاته، عبر شخصية الكاتب عروة، هو حل سهل درامياً لتقديم التنظير التلفزيوني، عبر خطاب مباشر سواء في المونولوج أو الحوار. والملاحظ في أعمال سامي يوسف السابقة، وجود شخصية ثانوية تقدم الخطاب المباشر و"عبرة" المسلسل للجمهور "الأقل وعياً" بفجاجة وثقل ظل، بدليل شخصية "تامر" (غزوان الصفدي) في مسلسل "زمن العار" على سبيل المثال، وفي "الندم" تنتقل تلك الشخصية إلى البطولة المطلقة، وهو الخلل الأبرز في العمل.
الاعتماد على شخصية كاتب السيناريو في البطولة، تذكر بمسلسل "قلم حمرة" الذي قدمته الكاتبة ريم مشهدي مع المخرج حاتم علي قبل عامين، لكن "الندم" أقل جودة بكثير لاعتماده فقط على سرد أحادي الاتجاه في عقل عروة، وباللغة الفصحى غالباً كأنه حصة مدرسية أو مقالة صحافية رسمية، بينما كانت الأفكار المتناقضة والمختلفة لا تهدأ في عقل "ورد" (سلافة معمار) في "قلم حمرة"، بين الذكريات والتخيلات والأحلام والأفكار الفلسفية المجردة مع لغة بصرية شديدة التنوع، ليتحقق بهما عامل الإبهار.
بناء الشخصيات في المسلسل يبدو نمطياً حتى اللحظة. فالأم العظيمة التي تحيا من أجل زوجها وأولادها (سمر سامي) ورب العائلة الغني المكافح من الصفر (سلوم حداد) وهو رمز السلطة الأبوية الذكورية في المجتمع السوري، والأبناء الأربعة الذين لا يجمعهم شيء وحتى في حواراتهم بين بعضهم البعض يبدون كالأغراب، لأن كلاً منهم يمثل فكرة أو نمطاً اجتماعياً وليس شخصية إنسانية واقعية. وليس مستغرباً أن يقع الأب – الزعيم الدكتاتوري في مشكلة التمييز بين الأبناء مع تفضيله لابنه المثقف على حساب الآخرين، مما يوحي بأجواء تمرد ما في العائلة لاحقاً.
يزخر العمل بالنجوم، ويقدمون ما هو متوقع منهم تماماً. فأسماء مثل سمر سامي وسلوم حداد وباسم ياخور ودانا مارديني وأحمد الأحمد، لا يمكن أن تقدم أداء سيئاً مع مخرج متمكن مثل حجو، بل إن حضورهم يمثل إضافة حقيقية للعمل. أما بطل العمل محمود نصر فيبدو أداؤه مهزوزاً وغير مقنع، وفي بعض المشاهد يظهر نصر وكأنه يقرأ الحوار غصباً بدل تمثيله، وقد يعود ذلك لكون الشخصية نفسها سلبية ومملة غير قادرة على الإقناع أو نيل التعاطف أو الحب، أو لعدم قدرة نصر على تقديم الإضافة التي تحتاجها البطولة المطلقة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها