في الثامن من حزيران 1972، شنّت قوّات فيتنام الجنوبيّة الجوّية، المتحالفة مع الولايات المتحدة حينها ضدّ الـ"فيتكونغ"الشماليين، غارةً جوّية بالنابالم على بلدة "ترانغ- بانغ"، متسبّبة بتدمير البلدة. لم تكن أوّل مجزرة في المطحنة الدمويّة الفيتناميّة، كما لم تكن أكبر مجزرة، لكنّ صورةً التقطها المصوّر نيك أوت، عند مشارف البلدة، قيّدت اليوم والمكان في سجلّ التاريخ، وجلبت لصاحبها جائزة "بوليتزر"، الأهم والأشهر في عالم الصحافة. إنها صورة "كيم".
بان- ثي- كيم- بوك كانت في التاسعة من عمرها حين تساقط النابالم على بلدتها وأصابها. هربت باكيةً ومذعورة من البلدة وهي تخلع بقايا ثيابها المشتعلة. نجت من المحرقة، وإن بعد أكثر من 14 شهراً في المشافي، و17 عمليّة زرع جلد لتعويض ما اكتسحه النابالم من جسدها. التقط نيك أوت مشاهداً لـ"كيم" عاريةً ومذعورة ومحروقة وهي تبحث عمّن يعينها على النابالم الذي كان ينهش جسدها نهشاً، وجابت هذه الصور العالم لتبرز الفظاعات المجّانية المرتكبة ضد الفيتناميين.
تعيش "كيم" اليوم في كندا، حيث تعمل على أن "تنسى وتُسامح"، مستعينة لأجل ذلك بإيمانٍ ديني عميق.
أما الصورة الأخرى فالتقطها مصوّر "فرانس برس" محمد الخطيب في حلب، الأحد الماضي، في اليوم الأول لحملة القصف الجوّي بالبراميل المتفجّرة التي تعانيها أحياء حلب الخارجة عن سيطرة النظام منذ ذلك اليوم، والتي أوقعت، بحسب تقديرات ناشطين محليين ومنظمات مثل "أطباء بلا حدود"، أكثر من مئتي شهيد وعدد أكبر من الجرحى، يُعانون ضعف الإمكانيات اللوجستية لعمليات الإنقاذ، إضافة إلى نفاد أغلب الموارد الطبية اللازمة لعلاجهم. تُظهر هذه الصورة سيّدة مغبرّة الثياب ودامية الوجه، تمشي في الشارع مبتعدة عن مكان سقوط أحد البراميل المتفجّرة التي ضربت حلب يومها. على يمينها طفلٌ لا نرى ملامحه بوضوح خلف ذراعه المنبسطة أمام وجهه وقبّعته الخضراء، وعلى يسارها طفلٌ آخر مُدمّى الوجه.
السهل والمنطقي، عند تمعّن الصورة، هو افتراض أن السيّدة والطفلين بفي حالة ذهول كامل بعد تلقّي عنف الضربة المتفجّرة. الأرجح أن يكون الأمر كذلك، لكنّ لنظرة السيّدة مغناطيسيّة معيّنة يصعب شرحها أو فهمها. يبدو أنها تنظر بثبات إلى نقطة معيّنة، تتجه نحوها في مسيرها. يبدو أيضاً أن الطفل الذي على يسارها ينظر تجاه هذه النقطة أيضاً. لعلّ هذه النقطة شخصٌ يُراد منه العون، أو نقطة طبّية. ربما قريب أو صديق، أو ببساطة شخص معروف. ربما تكون هذه النقطة، ببساطة، مكاناً ﻻ نار وركام فيه، يمكن اللجوء إليه بعيداً من همجيّة القصف، وترنّح المكان المقصوف واختلاجاته.
الطفل الآخر، الذي على اليمين، يستعين بذراعه وقبّعته وثياب السيّدة، التي تمسك به بقوّة، كي يغمض بصره. ﻻ يريد أن يرى أمامه وﻻ خلفه. السيّدة تقوده وهو يذهب معها. ربما هو الأقل ذهولاً وصدمةً ولذلك شرع يبكي، وسيلتحق رفاق رحلة الغبار والدم ببكائه بعد قليل. ﻻ يريد أن يُشاهد، وهذا حقّه. السؤال عن أخلاقيّات من ﻻ يريد أن يُشاهد تبعات الإجرام المنفلت رغم أنه قادر أن يفعل شيئاً، ولو بسيطاً، للمساهمة في وقف هذا الإجرام محقٌّ أيضاً.
بين صورة "كيم"، التي أضحت رمزاً لمناهضة الحروب حول العالم، واستُخدمت بكثافة في حملات المطالبة بتحريم إنتاج واستخدام النابالم في القوانين الدوليّة، وصورة سيّدة حلب والطفلين، أكثر من 41 عاماً. تغيّرت في العقود الأربعة هذه أشياء كثيرة، من بينها، طبعاً، تقنيات التصوير. لم تتغيّر الوحشيّة المنفلتة لدى أباطرة الإجرام كثيراً، والتي تجعلهم يستسهلون، بل ويستمتعون، بالقتل والتدمير والتعذيب لأهداف سياسيّة سلطويّة، أو اقتصادية استغلاليّة، أو حتى من دون سبب إﻻ إثبات أنهم أقوياء، قادرون، بيدهم مصير هؤﻻء التعساء، وفي عقلهم الدنيء تقدير اللحظة التي يمارسون فيها قدراتهم على مصائر الناس. هذه الوحشيّة، كالتصوير، انتقلت من الـ"الأنالوغ" إلى "الديجيتال"، وأصبحت تنشر رياءها على "انستغرام". بشار الأسد هو المثال الأبلغ على وحشيّة الصورة، بكل ما للوحشيّة من تجليات وأشكال.
سيدة حلب للمصور محمد الخطيب