قبل إلغائها منتصف العقد الماضي، كانت مادة "التربية العسكرية" جزءاً من منهج المرحلتين الإعدادية والثانوية في سوريا. في هذه المادة، كانت "البارودة الروسيّة" بوصفها "سلاحاً فردياً فعّالاً" هي جوهرة التاج، إذ يستحوذ حفظ عيارات الكلاشنكوف ومقاساته، ثم تعلّم فكّه وتركيبه -بعد إجراء "حركتي أمان"- على الجزء الأكبر من منهج المادة. أواسط المرحلة الثانويّة، ثم في المعسكرات الشبيبيّة الإجباريّة، كان الطلاب يُساقون إلى حقل الرماية لتفريغ نحو عشر طلقات رشّاً، مع زميلٍ يُساعد في لمّ فوارغ الطلقات.
توفي، قبل أيام، عن 94 عاماً، ميخائيل كلاشنكوف، مصمّم السلاح الرشاش الأشهر والأكثر انتشاراً حول العالم. قيل وكُتب الكثير عن المفارقات الأخلاقية والإنسانية لاختراع أداة تقتل نحو ربع مليون إنسان سنوياً. ﻻ شك أنها مفارقات تستحق البحث والتفكير، وربما اكتشاف مفارقات أخرى أكثر أو أقل سطوعاً وبديهيّة منها. عدا ذلك، ﻻ يُمكن تفادي ملاحظة أن الكلاشنكوف هو، بعد السيوف بأنواعها، أكثر الأسلحة حضوراً في التعبيرات الثقافية، السياسية منها وغير السياسيّة، على امتداد جغرافيا الأرض.
حظي الكلاشنكوف بمكانٍ تشريفي في صور ورموز حركات التحرّر الوطني، خلال الستينات والسبعينات، من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية المختلفة إلى "الفيتكونغ" في فيتنام، مروراً بالساندينيستا في نيكاراغوا والميليشيات اليسارية في غواتيمالا والسلفادور وغيرها. عشرات الألوف من البوسترات الدعائية تترك للكلاشنكوف صدر ألوانها. حيث انتصرت هذه الحركات، تركت للكلاشنكوف مكاناً حتى في رموز الدولة التي أسستها، عرفاناً لدوره المساعد في النصر: الكلاشنكوف موجودٌ، مثلاً، في أعلام الموزامبيق وتيمور الشرقيّة الرسميّة. يظهر الكلاشنكوف أيضاً في شعارات حزب الله والحرس الثوري الإيراني.
موسيقياً وشعرياً، تواجد الكلاشنكوف أيضاً في شعارات وأغاني حركات التحرّر والجماعات اليسارية المختلفة. ففي فلسطين على سبيل المثال اشتهر هتاف "مافي خوف مافي خوف، الحجر صار كلاشنكوف" إضافة إلى أغانٍ وقصائد نضالية كثيرة. منها أغنية "كلاشنكوف خلي رصاصك بالعالي" للفرقة المركزية المرتبطة بحركة "فتح". المعاني والتشبيهات مماثلة لتلك الموجودة في أدبيات الحركات اليساريّة في أميركا اللاتينية وأفريقيا. لكنّ الوجود الغنائي للكلاشنكوف لم يقتصر على السياقات النضالية الملتزمة، ففي لبنان هناك أغنية لفيلمون وهبي، بطابعه المميّز، عنوانها "كلاشنكوف". العنوان نفسه الذي استخدمه الموسيقار الصربي-البوسني غوران بريغوفيتش لإحدى أغنياته. بريغوفيتش اشتُهر عالمياً بكونه واضع موسيقى النتاج السينمائي لأمير كوستوريكا.
“كلاشنكوف" هو أيضاً اسم أغنية شهيرة لـ "إيبتوس أونو"، مغني الهيب- هوب الأميركي من أصل مكسيكي، والاسم التجاري للكلاشنكوف، آي كي-47، هو لقب أحدى مغنّي الراب الشهيرين في بولونيا.
إحدى أكبر أزمات التشافيزيّة في فنزويلا، مع المؤسسة الكاثوليكيّة الرسميّة، كانت بسبب غرافيتي رسمه عدد من الناشطين الموالين للراحل هوغو تشافيز أمام إحدى الكنائس في كاراكاس، وتظهر فيه مريم العذراء وهي تحمل المسيح الطفل ورشاش الكلاشنكوف في آنٍ معاً.
في المكسيك، اشتُهر كتاب للصحافي المخضرم أليخاندرو ألماثان بعنوان "فتيات الكلاشنكوف وقصص أخرى"، يجمع فيه مختارات من عمله الاستقصائي. قصة "فتيات الكلاشنكوف" تروي سيرة مجموعة من الفتيات اللواتي يعملن كقاتلات بالأجرة في شمال المكسيك، المنطقة الواقعة تحت سيطرة كبرى عصابات الإتجار بالمخدرات وتهريبها. سيطرة عصابات المخدرات على شمال المكسيك ﻻ تتوقف على القوّة المسلّحة، بل تتعدّاها إلى الهيمنة اﻻقتصادية والاجتماعية والثقافيّة، وحتى الدينية! هناك نتاج موسيقي وشعري-غنائي قائم على تمجيد قادة عصابات الإتجار بالمخدرات ومقدرتهم على تحدّي "الأقوياء"، ومن المألوف أن تُرفع صور وتماثيل لهؤﻻء القادة في الكنائس حين يُغتالون ويُصلّى لهم وكأنهم قدّيسون. يُعرف الكلاشنكوف في المكسيك باسم "قرن المعزة"، كنايةً عن استدارة مخزن الرشاش.
هناك طرفة رائجة بين صحافيي الحروب الذين عملوا في أفريقيا، تقول إنك قد تجد قرى كثيرة ليس فيها أدوية أو لقاحات، وﻻ حتى مياه صالحة للشرب، لكن أياً منها لن يخلو من عنصرين: رشاش الكلاشنكوف وبرّاد الـ"كوكا كولا". الآلية البشرية لإنتاج وإعادة إنتاج رموزها مثيرة للإعجاب والتعجّب في آنٍ معاً.