الإثنين، الثاني من حزيران/يونيو، في التاسعة صباحاً تُخطر الحكومة الاسبانية وسائل الإعلام، أن رئيسها ماريانو راخوي، سيتلو إعلاناً رسمياً بعد ساعة ونصف في مونكلوا، مقر رئاسة الوزراء. التكهنات والتوقّعات الأولى، تحدّثت عن إمكانية تعديل التشكيلة الحكومية، لكن نمط الإعلان، غير المألوف، جعل من هذا الاحتمال مستبعداً. قبل العاشرة ونصف بربع ساعة، تظهر تسريبات تؤكدها كلمات راخوي بعدها: خوان كارلوس الأول، صاحب التاج الاسباني منذ عام 1975، يتنحّى عن العرش لصالح ابنه فيليبي. إنه خبر متوقّع منذ أكثر من عامٍ ونصف أو أكثر، لكنّ التوقّع لا يخفف من حجم وقوّة الزلزال الإعلامي والسياسي الذي أحدثه الإعلان.
ولد خوان كارلوس دي بوربون، في روما عام 1938، وهو ابن خوان دي بوربون وحفيد ألفونسو الثالث عشر. الملك ألفونسو الذي رحل عن اسبانيا عام 1931 لتقوم مكانه الجمهورية الإسبانية الثانية. والتي انتهت بدورها إثر هزيمتها في الحرب الأهلية الاسبانية 1936-1939. وذلك أمام قوّات الجنرال فرانكو، الذي أرسى دعائم نظامٍ استبدادي عسكري، ينهل من اليمين القومي-الكاثوليكي إيديولوجيته شبه الفاشيّة. كان فرانكو مقتنعاً بعودة الملكيّة إلى عائلة بوربون من بعده. لكنه فضّل تجاوز خوان، الوريث الأول، ذو النزعة الملكيّة الليبراليّة والحالم بملكية دستورية على الطراز الأوروبي، لصالح ابنه خوان كارلوس. لم يرق لخوان دي بوربون هذا التوجّه، لكنه لم يمانع ارسال ابنه اليافع من مقر إقامة العائلة في استوريل البرتغاليّة، إلى اسبانيا ليتربّى في أكاديميات قوّاتها البحريّة المرموقة، ريثما ينجلي النقاش حول وراثة الحكم بعد فرانكو. عام 1969 حسم فرانكو قراره لصالح تسمية خوان كارلوس وريثاً للتاج الاسباني، ما تسبب بقطيعة بين خوان كارلوس وأبيه، الذي رفض الاعتراف بابنه ملكاً لإسبانيا حتى عام 1977.
في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1975، صعد خوان كارلوس إلى العرش بعد وفاة الجنرال فرانكو بيومين. وكما حصل قبل ستة أعوام حين عُيّن رسمياً ولياً للعهد، قرأ القسم الذي تضمّن التعهّد بالحفاظ على مبادئ الحركة القوميّة، الهيكل الإيديولوجي لنظام الجنرال فرانكو. وعلى الرغم من ذلك، بدا واضحاً بعد أشهرٍ قليلة، أن الملك الجديد يسير مع المزاج الصاعد باتجاه الانفتاح والتحوّل الديمقراطي. وهو مزاجٌ كان مندفعاً، أساساً، بفضل علاقات اقتصادية أقوى مع أوروبا، والتي كانت قد بدأت بالتبلور منذ أواسط الستينات. يضاف إلى ذلك، رغبة طبقة وسطى توسّعت كثيراً خلال العقد والنصف الأخير من عهد فرانكو. وبالتعاون مع أدولفو سواريث، آخر رئيس وزراء مُعيّن من قبل رأس الدولة عام 1976، وأول رئيس وزراء خارج من برلمان منتخب بعد إقرار دستور عام 1978، قاوم الملك النزعات الرجعية للقطاعات الموالية لفرانكو، التي كانت ما تزال تحظى بنفوذ كبير في الجيش وقوى الأمن. وطبع هذا الاستقطاب سنوات التحويل الديمقراطي في النصف الثاني من السبعينات. ولا سيما مع رفع الحظر عن الحزب الشيوعي الإسباني، وتطبيع وجوده في الحياة السياسيّة. لكن الاستقطاب وصل إلى ذروته عام 1982، حين أُفشلت محاولة انقلابيّة صاخبة في الثالث والعشرين من شباط/فبراير. في ذلك اليوم، اقتحمت قوّة من الحرس المدني بقيادة أنطونيو تيخيرو، وهو ضابط من نوستالجيي فرانكو، مبنى البرلمان أثناء انعقاد جلسة لاختيار خليفة أدولفو سواريث، واحتجزت البرلمانيين طوال الليل. انتشرت بعض القطع العسكرية الانقلابية في منطقة فالنسيا، لكنّ ظهور الملك في التلفزيون مرتدياً زيّ القائد العام للقوات المسلّحة، وهو يندد بالانقلاب ويؤكد على استمراريّة النظام الدستوري حسمت الموقف، وسلّم الانقلابيون أنفسهم للشرطة العسكرية.
حفظت السرديّة الرسميّة للتحويل الديمقراطي في اسبانيا للملك مكانةً مرموقة، إذ قدّمته كصانع رئيسي للقفزة الإسبانية من ديكتاتورية عسكرية كاثوليكية إلى ملكية دستورية عضو في الإتحاد الأوروبي. وكعنصر فاعل في صناعة التوافقات بين الأحزاب السياسية في اللحظات الحرجة. لذلك، حُيّدت العائلة المالكة من أي استقطاب سياسي في البرلمان، والتزمت وسائل الإعلام الرئيسية “ميثاق شرف” غير مكتوب يقضي بعدم المسّ بالملك وعائلته. وعدا عن التيارات اليسارية الجمهورية، لم يلق الملك إلا المديح. وطوال عقدي الثمانينات والتسعينيات والنصف الأول من العقد الماضي، كان التاج يتلقى أفضل التقييمات في استطلاعات الرأي الشعبي حول مؤسسات الدولة وعملها. وبقي الوضع على هذا الحال حتى انفجار الأزمة الاقتصادية عام 2007، حين بدأت المطالبات بعلنيّة موازنات القصر الملكي، لكن هذه لم تكن إلا حنجلة بداية الرقص.
وجّه القضاء، في حزيران/يونيو عام 2011 اتهاماً لإينياكي أوردانغارين، لاعب كرة اليد الدولي السابق وزوج كريستينا، ابنة ملك اسبانيا الصغرى، بالفساد على خلفية كشف تلاعبه بحسابات مؤسسات غير ربحية معنيّة بالترويج للرياضة، كان قد أنشأها قبل سنوات. وحاولت الأوساط السياسية والصحفية الملكية تحييد الملك عن الفضيحة، لكن وقوعها في سياق أزمة اقتصادية خانقة شكّل انطلاقة لرفع الغطاء الإعلامي عن الملك وعائلته. وبالكاد غابت أنباء القضية عن الصحف منذ ذلك الحين. بدا مستشارو الملك ومسؤولو القصر في وضعٍ لا يُحسدون عليه في تلك اللحظة، لكن ما سيجري بعد أقل من عام أثبت أنهم لم يلمسوا القعر بعد.
في نيسان/إبريل 2012، وفي الوقت الذي كانت اسبانيا تعيش فيه أسوأ أوضاعها الاقتصادية منذ عقود، بنسب بطالة تفوق الـ 24 بالمائة، ونسب فائدة خيالية على الدين العام الإسباني، يُعلن أن الملك قد خضع لعمل جراحي لمعالجته من إصابة في وركه إثر سقوطه. حاول جهاز الحماية الخاص بالملك تمويه القصة، لكنه فشل في ذلك: أصيب الملك أثناء مشاركته في رحلة صيد فيلة في بوتسوانا! أثار هذا الخبر زلزالاً مدوياً في اسبانيا، لا سيما وأنه ترافق مع تقارير صحافية، تُشير إلى أن الملك كان برفقة "صديقة خاصّة" هي الأميرة كورينا زو ساين، طليقة أحد النبلاء الألمان. وكانت الأميرة كورينا قد سافرت ضمن وفود ملكية رسمية عدة مرات، كما قامت بعدّة زيارات بروتوكولية بصفتها “ممثلة ملك اسبانيا”. مما أدى لاستدعاء مدير عام المخابرات الإسبانية، إلى البرلمان ليقدّم تقريراً عن نشاطها أمام لجنة أسرار الدولة. وليوضّح إن كانت قد تلقّت أموالاً من الخزينة العامّة لقاء تمثيلها "الشخصي" للملك.
وعلى الرغم من اعتذار الملك العلني للإسبان، أمام وسائل الإعلام التي غطّت خروجه من المستشفى بعد العمل الجراحي، تدهورت صورة العائلة المالكة بقسوة بعد رحلة بوتسوانا. وسجّلت التقارير الدورية لمعهد الدراسات السوسيولوجيّة، التابع للحكومة الإسبانية، انهياراً لإيجابية صورة الملك بين الإسبان؛ من أكثر من 75 بالمائة أواسط التسعينيات، إلى ما دون الـ 35 بالمائة قبل شهرين. وتزامن هذا الأمر مع تدهور صحة الملك واضطراره لإيفاد وريثه فيليبي، الأقل تضرراً من التدهور العام لصورة العائلة المالكة، ممثلاً عنه في أغلب المناسبات والمحافل الرسمية داخل وخارج اسبانيا. منذ شهور والأوساط السياسية والصحفية في اسبانيا تتحدث عن حتمية تنحٍّ قريب لخوان كارلوس الأول. وتنقل بامتعاض رفض الملك لهكذا خيار وإصراره على البقاء ملكاً حتى الموت. وهو رفضٌ تضعضع، حسب ما تُشير الصحافة اليوم نقلاً عن دوائر القصر الملكي، بداية العام الجاري، وصار قراراً نهائياً أواسط آذار/مارس الماضي، ونُقل رسمياً للحكومة بعدها بأيام، ليُعلن الثلاثاء للشعب الاسباني.