مصدر الأموال، مفهوم ومعلوم. إذ بدأت الدولة منذ أكثر من سنة بتصحيح آليّات استيفاء الضرائب، عبر تعديل سعر الصرف المعتمد لتحصيل الرسوم الجمركيّة والضريبة على القيمة المضافة وغيرها. غير أنّ المطلوب فهمه الآن، هو المصلحة التي يخدمها "شفط" أموال الدولة بهذا الشكل، في حسابات عالقة ومجمّدة في مصرف لبنان، بدل العمل على المشاكل التي تساهم في تحلّل القطاع العام وتردّي خدماته. وطالما أنّ كل قرار، منذ العام 2019، بات يخدم توزيعًا ما لخسائر الأزمة، فمن المفترض السؤال الآن عن الخسائر التي نسددها بهذه الإجراءات. إذ أن مصدر هذه الأموال ليس سوى جيوب دافعي الضرائب، وهذه الفئة نفسها هي من يدفع ثمن تردّي خدمات القطاع العام.
الحاكم بأمره
قبل يوم واحد من تولّيه مهام الحاكميّة في المصرف المركزي، أعلن الحاكم بالإنابة وسيم منصوري بجملة واحدة "لن يتم التوقيع على أي صرف لتمويل الحكومة إطلاقًا خارج قناعاتي". يومها، كان المفهوم من هذا التصريح ارتباطه بمسألة إقراض الدولة عبر طبع العملة، أو من احتياطات مصرف لبنان، وهو ما تمّ تلقفه بشكل إيجابي بوصفه معالجة للأخطاء السابقة، التي تورّط بها المصرف المركزي.
غير أنّ تطبيق هذا التصريح، ذهب إلى ما هو أبعد من وقف إقراض الدولة بالدولار أو بالعملة المحليّة. فمنذ ذلك الوقت، تشدّد مصرف لبنان –بالتعاون مع وزارة الماليّة- في إنفاق الأموال التي تجبيها الدولة من الرسوم والضرائب، بمعزل عن امتناعه عن إقراض الدولة بما يفوق إيراداتها. وهذا تحديدًا ما تسبب بمراكمة هذه الأموال في حسابات القطاع العام لدى المصرف المركزي، على هذا النحو الهستيري.
نتائج هذه السياسة باتت واضحة للعيان. فرغم تحمّل عموم دافعي الضرائب كلفة التصحيح الضريبي، وارتفاع الأسعار في السوق، ما زالت الغالبيّة الساحقة من الإدارات الرسميّة غير قادرة على تأمين أبسط الخدمات البديهيّة المتوقعة منها. ومن هذه الإدارات بطبيعة الحال تلك التي تتسم أدوارها بحساسيّة خاصّة، مثل الجامعة اللبنانيّة والمدارس الرسميّة والمستشفيات الحكوميّة ووزارة الصحّة.
باختصار، لم تتم مواءمة معدلات الإنفاق العام مع ارتفاع كلفة تشغيل هذه الإدارات، فيما جرت مواءمة معدلات استيفاء الرسوم والضرائب وفقًا لسعر صرف السوق الموازية.
أهداف هذه السياسة التقشفيّة
البحث في طبيعة السياسة النقديّة التي يعتمدها مصرف لبنان، تشرح بوضوح أبعاد هذا النوع من الإجراءات. في أواخر شهر أيّار 2023، كان حجم السيولة المتداولة ورقيًا في السوق، بالليرة اللبنانيّة، يتجاوز 80.85 ترليون ليرة لبنانيّة. ثم ما لبث أن تدنّى حجم هذه الكتلة النقديّة تدريجيًا، ليلامس حدود 59.87 ترليون ليرة في أواخر الشهر الماضي. بهذا المعنى، وخلال فترة لا تتجاوز 11 شهرًا، تقلّص حجم هذه الكتلة النقديّة بنسبة 26%.
على هذا النحو، باتت السياسة الماليّة، وتحديدًا في ما يخص جباية الضرائب بالنقد الورقي، وإيداعها في مصرف لبنان، أداة لامتصاص النقد المتداول بالليرة في السوق. أو إذا أردنا أن نقولها بعبارة فجّة: تم تطويع السياسة الماليّة للدولة وآليّات الجباية والإنفاق، لتخدم أهداف السياسة النقديّة.
مع الإشارة إلى أنّ أدوات السياسة الماليّة يفترض أن تتكامل مع أدوات السياسة النقديّة، على أن تخدم كل من السياستين أهدافاً خاصّة ومختلفة. فهدف السياسة النقديّة الأهم –وليس الوحيد!- هو تحقيق استقرار سعر الصرف، بما يحقّق متطلبات النمو الاقتصادي. أمّا الهدف الأهم للسياسة الماليّة، فهو تحقيق الحد الأدنى من التوازن في الماليّة العامّة، بما يسمح للدولة بأداء أدوارها في المجتمع.
لهذا السبب، لا يوجد أي "شطارة" –كما يُقال بالعاميّة- في تحقيق أهداف السياسة النقديّة على حساب أهداف السياسة الماليّة. بل على العكس، لا يعكس هذا الواقع سوى كسل من جانب مصرف لبنان، في تحقيق استقرار سعر الصرف بأدواته الخاصّة. ولهذا الكسل نتائجه التعيسة بالطبع، على مستوى فعاليّة الدولة وإداراتها الرسميّة.
امتصاص الكتلة النقديّة، بهذه الإجراءات غير التقليديّة وغير الصحيّة، هو ما يفسّر ثبات سعر الصرف طوال الفترة الماضية. فامتصاص الليرات من السوق، يجففها من السيولة التي يمكن أن تمثّل طلبًا على العملة الصعبة، وهو ما يمنع ارتفاع سعر صرف الدولار. وفي الوقت نفسه، يسمح امتصاص الليرات لمصرف لبنان بخلق بعض السيولة بالليرة، لشراء الدولارات من السوق، من دون أن يتسبب بزيادات في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، ومن دون أن يضرب سعر صرف الليرة. وبذلك، تفسّر هذه الإجراءات أيضًا تزايد احتياطات مصرف لبنان، منذ انتهاء ولاية رياض سلامة سلامة.
الأبعاد السياسيّة للإجراءات
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي منع الحاكم السابق رياض سلامة من اعتماد هذه السياسة، طالما أنّها تحقق مصلحة وأهداف مصرف لبنان في ضبط سعر الصرف؟ وما الذي يسمح لمصرف لبنان اليوم بفرض هذه السياسة على وزارة الماليّة، رغم تداعياتها السيئة على أداء الدولة وقطاعاتها؟
ثمّة من يربط الإجابة على هذه التساؤلات بالدعم السياسي الذي يتلقّاه الحاكم بالإنابة حاليًا، من جانب مرجعيّته السياسيّة. كما يُربط ذلك بسيطرة مرجعيّته السياسيّة على قرار وإرادة وزارة الماليّة، وضيق الهامش الذي يملكه الوزير الحالي يوسف الخليل عند اتخاذ القرارات. ومن المعلوم أنّ ثمّة أبعاداً طائفيّة خاصّة لكل هذا الملف، طالما أنّ الحؤول دون "سقوط الهيكل" في أيّام "الحاكم بالإنابة الشيعي" مثّل أبرز العناوين التي تم رفعها سابقًا، وإن في الغرف المغلقة، لتمكين منصوري من فرض شروطه على الجميع.
في المقابل، ومع اعتماد مصرف لبنان على هذه السياسة غير المُنتجة، تغيب عن المشهد جميع الإصلاحات الموعودة التي كان يفترض أن تؤسّس لانتظام نقدي حقيقي، وبالاعتماد على سياسة نقديّة محترفة ومسؤولة. فمنصّة التداول الشفّافة ما زالت مغيّبة، بحجّة الظروف الأمنيّة. وأدوات تدخّل مصرف لبنان في السوق ما زالت تعتمد على عمليّات غامضة، من خلال أطراف مجهولة الهويّة بالنسبة للرأي العام. أمّا عمليّة إعادة هيكلة القطاع المالي، التي يفترض أن تستعيد تدفّق العملات الأجنبيّة إلى البلاد، فما زالت تنتظر إنجاز مسودّة القانون في الحكومة.
المشكلة الأهم هنا، هي عدم استدامة هذه السياسة النقديّة. فعاجلًا أم آجلًا، ستضطر الحكومة الحاليّة –أو المقبلة- إلى إعادة تصحيح حجم الإنفاق العام، وتصحيح أجور العاملين فيه.. إلا إذا كانت الخطّة الراهنة تقوم على العيش في ظل شبه دولة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها