كان.. أو ما كان..
صديقي الافتراضي، وغريمي الافتراضي (دون أن يدري)، قريني ونقيضي ومناط غيرتي وإعجابي.
الجامع إلى نزاهة نفس نادرة كرماً دافقاً في المشاعر والانفعالات، وفي تقديمي إلى أصحابه ومنحي من وقته ما يكفي ليشفيني من كل شك في أنني ربما أثقلت عليه حين حولت صداقة فيسبوكية إلى زيارة قاهرية.
هاني بث دائماً روحاً مناقضة مشاكسة للمناخ السائد. في عز الاحتفالات الثورية دفعته تشتتات الثورة نحو التشاؤم دون يأس، وفي عز اكتئاب الثوريين الأوائل كجيمي وأدهم، كان ينافح عن عرين الأمل الراسخ حتى في قعر العدم. ذلك أنه كان دائماً صياد اللحظة الآتية، لا الآنية، تلك التي ينتشلها من بين أكوام الحاضر المشعث الذي حوله في مقالاته وحكاياته القاهرية إلى تراكم هائل من الأحاسيس والتفاعلات التي تفيض منه بعفوية وعذوبة، قد نضت عنها التناسق العقلاني لتكتفي بهارمونيا خفية من الانفعال الجياش.
انتبهت، حين صدمني الخبر، أننا في ثلاث زيارات لم نأخذ صورة معاً رغم أن الكاميرا بقيت في جيبي طيلة أيامنا البرلينية والقاهرية قبلها. تذكرت أنني فكرت في ذلك للحظة ثم أزحت الفكرة من رأسي. من يحتاج إلى صورة مع تلك الكتلة من المشاريع المشتركة ووعود اللقاءات المقبلة في ألمانيا وهولندا والقاهرة وبيروت و.. ربما كان تصوير كتلة الانفعالات التي كانها مستحيلاً، لذا كانت صوره دائماً تخفي هذه الانفعالات وراء الضحكة.
حتى حين دخلنا المتحف، في اليوم الأخير له في برلين، ترك الكاميرا في صندوق المدخل واكتفي بحلم الإقامة البرلينية التي ستسمح له بالعودة تكراراً إلى البرغاموم كي ينمو فيه فهم أوسع لفن الرافدين الذي أثار اهتمامَه اختلافُه الجذري بالقسوة والرعب (وهو ما كان هاني حساساً تجاهه) عن الفراعنة وفنهم الهادئ المنسرح.
كرر هاني، السريع الضجر، رغبته بالعودة إلى برلين لأنه استشعر فيها مقاومة نظرية وعملية وعمرانية متعددة الطبقات للاحتمالات السلطوية وحلم بأن يتشرب المصريون مثل هذه المقاومة كي تصير جزء من نسيجهم مثلما حلم بمثقفين على شاكلته، أي ممن عانوا وصارعوا في الشوارع والكليات الجامعية هيمنة الاستبداد وفاشية الإسلاميين. وفي الليلة الأخيرة في برلين، غنى في شوارعها "مال القمر ماله" قبل أن يعنون صورة بدر تلك الليلة على صفحته الفيسبوكية "قمر الوداع"، دون أن يدرك، هو الممني النفس بالعودة، أنه الآن في ضوء قمر لا يتغير.
حين التقينا في القاهرة كانت صورته الأولى قد اختفت من ذاكرتي. كنا قد تجاورنا، هو عبر الشاشة وأنا في الاستديو، في برنامج تلفزيوني تحدث فيه هاني عن زياد الرحباني وذكريات التسعينيات أيام دخول الرحباني الصغير إلى الجامعات المصرية. كما في كل مرة، لم يكن هاني محللاً ولا محايداً ولو لثانية. كان حديثة حياً وحاراً كجرح طازج، كلحم أحمر ينبض. بعد ذلك كنت اقرأه، واقرأ مديح وضاح شرارة له، حين يلمس حفر الحكايات القاهرية الناتئ (الذي حلم بافراد كتابة له) وينسجه مقالات متوترة لم يضمها كتاب (وهذه الآن مسؤولية أصحابه القاهريين).
صورته الأخيرة فيّ، راكضاً خلف الاس بان البرليني في الثالثة فجراً. لم أشبع من توديعه لكن الترام لن يمر قبل ساعة كاملة. ركض ملوّحاً وقفز فوق الحاجز الحديدي مارقاً بين دفتي الباب برشاقة لاعب الكرة القديم في مجهوده الأخير. خلال تلك السهرة الأخيرة تنقل بنا "العمدة" بين مواضيع الزواج والطلاق والأبوة ومستقبل الثورة وأحلام الكتابة الجدية التي أمل أن تسمح له برلين بالتفرغ لها، ونوادر الحياة السياسية في مصر مطلقاً ضحكاته الرنانة. لكن أكثر ما تجلّى فيه وتسلطن كان الحديث عن المهنة التي عشق عشقاً جارفاً ومعدياً. حيث للصحافة في مصر تقاليد وتواريخ نكات عرفها من الداخل، حين جلس أمام مكتب مصطفى أمين المتآكل الداخل في سجادته الأثرية، أو حين وصف لنا مرافقة رؤساء التحرير شبه النيام في السادسة صباحاً لزيارات مبارك إلى الأقاليم. كانت أحلامه المهنية بحجم طموحاته الواسعة، وكان من الواضح أن "أصول المهنة" كانت لديه أكبر من مجرد كليشيه، بل كانت معياراً احترافياً للحكم على المقالات والمؤسسات والكتاب.
أما عشقه الثاني على ما تبدّى، فكان السفر. لم يتألق هاني كما كتب انطباعاته السريعة عن براغ أو حين تحدث عن برلين أو باريس أيام إقامته فيها عامل بناء دون أوراق إقامة نهاراً ومثقفاً نهماً ليلاً. في كل ذلك يحول هاني انطباعاته إلى "حديث"، لا إلى لغة. إلى حيوية وألم وانفعال وضحك وصراخ. كأن حديثه يعيد الكلمات إلى حقائقها الأولى" المطر، الشمس، القتل، المرض، الخضرة، الرعب، التماثيل، طول قامات النساء.. كان ذكاؤه منغمساً في عمق الحياة، لا في الأفكار. حتى كلمة "الحياة" تكتسي معه حياة.
الدائرة تكتمل. مثل صالح بشير، سنظل أصدقاء فيسبوكيين. لكن أتَعلَم ما هو الأمر الأقسى والأشد ألماً يا هاني؟ أن الحياة الحقيرة ستستمر في غيابك! لكن لن تجد أبداً من يعبّها مثلك!