مثل صرعات "يوتيوب" و"فايسبوك"، تلك التي تنتشر بسرعة الالكترون، غصت حوائط المفسبكين اللبنانيين وأحوالهم بـ"التحيات"، العَطِر منها والمتألم والمكلون والحالم. اللعبة التي بدأها الزميلان الصحافيان، حسان الزين ويوسف الحاج علي، إثر تحية عفوية إلى "حلويات الصفوف" (ربما بعد وجبة محترمة)، لاقت هوىً في أفئدة اللبنانيين، واكتسبت هاشتاغ
#تحية، إضافة إلى
صفحة فايسبوك التي أنشئت كـ"شخص" يرسل طلبات صداقة، لا صفحة عامة. إخواننا العرب لم يفهموا ما يجري. أما اللبناني واللبنانية، حتى وإن لم يفهما أصل الموضوع، فقد شاركا على وقع الموجة التي انتشرت. لكن هذه الصرعة لم تنتشر إلا بعدما تغيرت نبرتها من التحية إلى التذكّر.
بحسب البعض، هي نوستالجيا، انتقدها أو دافع عنها، أو قال بمشروعيتها اللحظية قبل العودة إلى النضال وانعكاسات الحرب السورية في لبنان. إلا أن التحيات لم تكن نوستالحية. حتى إن كان بعضها أعادنا إلى برامج "تلفزيون لبنان" وإعلاناته وممثليه (مسلسل "آلو حياتي"، وهند أبي اللمع، ومذيعات الربط)، أو إلى المأكولات والمشروبات (جلول وكولا وعصير بونجوس وبامبا ونجم)، أو السبعينات وقصّات الشعر في الثمانينات. لكن "تحيات" أخرى استذكرت الألم، الحواجز، الاختفاء القسري لأحباب أو مجهولين على حواجز الميليشيات اللبنانية والمخابرات السورية، الموتى الذين فاض عشقهم علينا فعشقنا أماكنهم ومدنهم. كما أن تحيات أخرى استعادت أساتذة المدرسة والجامعة، كلمات الغزل المندرسة، الغوايات العابرة في زحمة السير، مثلما استعاد آخرون أسماء مجرمي الحرب الصغار وما جاق بهم، والمغنين الذين آلو إلى النسيان، و"أنطونيو وراكيل" المكسيكيين اللذين جمعا اللبنانيين أمام الشاشة رغم تفاهة قصتهما. في المقابل، ذهب بعض التحيات إلى الأمهات والأصدقاء، باستذكار مواقف ومشاعر غرزوها، فضلاً عن التحيات إلى من ترك العمل وجلس ينقر "لايك" ويرسل التحيات بدوره... وما زالت الموجة مستمرة بشكل "فيروسي" مدهش!
تنوع هذه التحيات، فضلاً عن استعادة الألم والتفاصيل الصغيرة والعابرة والأشياء المتقادمة، ينأى بعفوية تحية عن أن تكون حنيناً وإعجاباً بزمن جميل، خصوصاً أن التحيات تكاد تركز حصراً على سنوات الحرب الأهلية في السبعينات والثمانينات، أي على ما لا شك في أنه لا يصلح لأن يكون زمناً جميلاً بأي معنى. لكنه الزمن المتاح الذي خبره مستخدمو "فايسبوك" اللبنانيون، من مواليد الستينات والسبعينات وهم فئة كبيرة من اللبنانيين والفسابكة.
لذا أزعم بأن التحيات هذه ليست حنيناً ولا نوستالجيا رومانتيكية، بل هي استعادة وتذكر وتركيب لما يحسب المُفسبك اللبناني أنه ذو مغزى قابل للمشاركة مع الآخرين: الأمومة، المدرسة، العائلة، الأساتذة، خبرات الحرب الأهلية، الأغاني، تلفزيون لبنان، برامج الأطفال، المآكل والحلويات... من جَمْع هذه التحيات تتشكل لدينا صورة وطن. التحيات تشير إلى قواسمنا المشتركة، إلى ما كانته "التجربة اللبنانية" بعيداً من الأسطرة. من هنا الحضور الطاغي للحرب الأهلية كتجربة أساسية مشتركة. إنها رواية الحرب الجامعة من دون غطاء إيديولوجي أو روائي.
لافت في هذا السياق، ومبرر، الغياب شبه التام لإسرائيل ومقاوماتها وخبرات اللبنانيين في ظل احتلالها، (باستثناء تحيات قليلة لحركة المقاومة الوطنية إثر اجتياح بيروت أو الفلسطينيين الصامدين). لافت ومبرر، حيث أن المفسبكين ربما حدسوا أن اللبنانيين عجزوا عن تحويل الخبرة في مواجهة إسرائيل، وفي ظلها، إلى قاسم مشترك. لقد عاش الجميع وطأة الميليشيات اللبنانية والحرب الأهلية والمخابرات السورية، فضلاً عن أغاني الثمانينات. لكن إسرائيل بقصفها واحتلالها والمقاومة ضدها، ظلت جزئية، معمّقة الصدع في العلاقات بين اللبنانيين. حتى حرب 2006 لم يتم تحويلها إلى خبرة موحدة رغم أن البلد بأسره كان محاصراً. لأسباب مختلفة كان هنالك رفض مقيم، من مختلف الجهات، للاشتراك في سردية اختبار الاحتلال والمواجهة معه، فظل الموضوع خارج التحيات آخر الأمر.
ذاك أن التحيات هذه، مُشكّلةً وجه التجربة اللبنانية، تشير إلى أوجه الاشتراك وقواسمه. لكنها في الوقت عينه، تشير إلى هشاشته، وهذه الأخيرة سبب انتشار التحيات مبدأ الأمر. إذ لم تكن ثمة حاجة لهذا الاستنفار للذكريات والمشاعر والتجارب المشتركة، ولم يكن من مجال لهذا الانتشار الهائل والسريع لصرعة غير مخطط لها، لولا الشعور المعمم لدى فئات واسعة من اللبنانيين المفسبكين بأن التجربة اللبنانية آلت، ربما أو هي على شفا أن تؤول، إلى نهايات غير مشرّفة.
لقد كتب عدد من المحللين الصحافيين عن نهاية لبنان كما نعرفه، في ظل الأزمة السورية، وكثافة اللاجئين، وقيام حزب الله وغيره بإلغاء الحدود على الجهتين. غير أن هذه العناصر ليست في حقيقة الأمر سوى إعلان لاحق عن تفككك التجربة. ويمكن في واقع الأمر العودة بهذا التفكك إلى سنوات عديدة سابقة، تلك التي شهدت وتشهد خواء كاملاً للمؤسسات اللبنانية الجامعة، وتفكيكاً متعمداً لكل مجال مشترك بين اللبنانيين. نحصي على عجل وبلا شمول: تكرر تجارب الفراغ الحكومي والعجز عن التشكيل، غياب أي سياسة تشجع على الاختلاط في الإقامة، شغور مؤسسة الرئاسة سواء بالتمديد أو بالفراغ، تحويل الوزارات والمديريات العامة وأجهزة المخابرات والهيئات الإدارية إلى اقطاعات خاصة لهذه الفئة أو ذاك الحزب، تحطيم دور الجامعة اللبنانية بوصفها الإطار الأهم لخبرة طلابية مشتركة، تدمير مصداقية الاتحادات العمالية، تفكيك الإعلام والتعليم إلى مؤسسات طائفية برُخص ممنوحة وفقاً للمعيار الطائفي، بناء دورات اقتصادية موازية فئوية، وإنشاء شبكات أمان اجتماعي ومساعدة خيرية على أساس طائفي... الخ. في المقابل، تشظت السرديات السياسية أيضاً إلى سرديات طائفية متقابلة. لا دور موحداً لشيء، ولا حتى العداء لإسرائيل.
هكذا لا يحتاج اللبناني اليوم، وقبل سنوات، إلى اللبناني "الآخر" في شيء: لا في المولد ولا الدراسة ولا الاستشفاء ولا الإقامة، ولا الزواج والمواريث ولا العمل ولا السردية السياسية، ولا الصحيفة والتلفزيون ولا شعيرة الموت، ولا حتى مكان وقوعه.
في ظل هذا التشظي العارم مُعلن نهاية "التجربة اللبنانية" التي بوشر في بنائها قبل تسعين عاماً ونيف، والتي انتجت، كآخر جيل، هؤلاء المفسبكين في العقدين الرابع والخامس من أعمارهم، كان لا بد من ردة فعل تستعيد اللحظات التي كانت مشتركة والأسماء الأليفة للجميع: تلفزيون لبنان، أحمد دوغان وربيع الخولي، مها سلمى، هرم بون جوس، خبرات الجامعة والغزل، الوقوف على الحواجز، قادة معارك الشوارع، ريمي بندلي، انتظار الخبز من الأفران، الأمهات الآخذين بأيدي الأبناء إلى الملاجئ.. وغير ذلك، وهو كثير كثرة الخلايا المتناهية في الصغر التي تتراكب وجهاً نتعرفه ويؤلمنا.
غير أن ردة الفعل هذه، في هشاشتها المعبرة، تودّع هذا الوجه إلى غير رجعة. لا أحد يستطيع التكهن بمستقبل ما بعد محاولة تركيب تحربة لبنانية مشتركة. لكن ما يبدو ثابتاً هو أن صرعة #تحية، كسائر أنواع الموضات الانترنتية، ستختفي عما قليل وتتلاشى بعد أيام كمثل الوجه الذي حاولت تصويره. لا، ربما، لن تتلاشى، بل، في عبارة أدق، ستتحول إلى الثبات الأبدي، ثبات الشواهد، في عالمها... الافتراضي. كمثل صفحات فايسبوكية بعد أن يهجرها أصدقاء أصحابها الراحلين. كمثل هذه المقالة نفسها الملوحة بمناديل التحية للوجه الذي يتحلل.