ماذا تعني، في لبنان، كلمات ـ علامات مثل "السياسة" أو "المقاومة" أو "المجلس النيابي" أو "الميثاق" أو "السيادة" أو "النصر" أو حتى كلمات ـ أشياء مثل "اللبنة" أو "الكبتاغون" أو غيرها؟ الأرجح أنها لا تعني ما ينبغي لها ان تعنيه، ولا تعني أصلاً شيئاً ثابتاً فمعانيها ومضامينها في حالة انزياح متواصل وسيولة!
يروى أن فكرة فيلم ماتريكس، أو "المصفوفة" كما ترجمت أحياناً، ولدت من كتابات جان بودريار الذي رأى انقطاعاً في عالم العلامات، أو الدالات، عن مدلولاتها في عصر ما بعد الفرجة، وكان هذا قطيعته الكبرى مع فكرة غي دوبور عن مجتمع الفرجة. فتحولت العلامات عن كونها تدل، لا فقط على مدلولات معينة، بل أيضاً على علاقات قوة وصراع اجتماعي لتهيم في سديمها الخالص مكونة شبكة منفصلة وتامة الاكتمال تسبح في ذاتها وتتمدد بلا نهاية.
عندما لا يكون من داعٍ لعقد جلسة نيابية كي يمكن ان نرى هل اكتمل نصابها أم لا، ويشترط وجود النصاب قبل وجود جلسة، ما ترى تعني هذه الجلسة، سوى التصديق على ما سبق الاتفاق عليه في مكان آخر غير المكان الي يفترض فيه تمثيل الارادة الشعبية! غير أن الاتفاقات من هذا النوع هي أيضاً لا تعني ما تعنيه، فالاتفاق مثلاً على حصة لرئيس الجمهورية في الحكومة تكشف عن وجود وزراء ملوك، واكثريات أو اقليات متنكرة خلف هذه الحصص، مثلما تكشف مفهوم الديمقراطية التوافقية عن حقوق فيتو طائفية لا عن توافق!
مثل كل ذلك كمثل السياسة التي تعني الفساد، و"النزوح السوري" الذي لا يقال لجوءاً كي لا ينال اللاجئون حقوقهم، والمجتمع المدني الذي كثيراً ما عنى "سبوبة" تمويل أو شهرة أو الاثنين معاً، أو كمثل "السيادة" التي ينبغي التنديد بانتهاكها في الجنوب لا في الشمال. بل ان الزيف ما بين الكلام ومعانيه المفترضة امتد إلى زيف "الكبتاغون" وحشو "اللبنة" بمواد مسرطنة وادخال صفقات أدوية فاسدة... الخ. شبكة الزيف هذه تمتد من سؤال "كيفك" الذي لا يهتم سائله بحالتك، ولا تنتهي مع "الله يعطيك" تقال للسائل وتعني " حل عني!" مروراً بكل مظاهر السيليكون والعمليات التجميلية التي بات لبنان فيها ينافس البرازيل.
بعض النفاق، كما كان يوسف السباعي قد أبرز في "أرض النفاق"، ضروري لتزييت العلاقات الاجتماعية فلا تتحول إلى صدام متواصل بين بشر لا يطيق واحدهم الآخر. غير أن شمولية الزيف في لغة اللبنانيين باتت تحمل المرء على ان يحمل في وجدانها قاموساً لتبديل المعاني لفهم مقاصدها شرط أن يظل يحدّث هذا القاموس باستمرار، وويل لمن يتناسى هذا التحديث، كالقادم من المغتربات مثلي، حيث لن يجد وسيلة كي يتواصل مع احد في هذا البلد، حتى مع اقرب الأهل والصحب.
بات لبنان اشبه بمصفوفة واسعة متكاملة، تحدّث هي بياناتها وتوسع عوالمها دون ضوابط. وأين نجد ضوابط متى كانت اللغة التي بها نعقل الامور ابنة قاموس يتغير دون انقطاع؟ فكيف نخرج من هذه المصفوفة؟
عن الغناء في طرابلس في حفلة عرس حيث أتى "كورال الفيحاء" ليغني فرحة احد اعضائه، قالت صديقة معجبة بالغناء اكابيلا هذا: "وحدها طرابلس يمكنها انتاج مثل هذا الكورال"!
تفكرت مطولاً في ملاحظتها، مستنكراً أولاً ثم مستملحاً، ثم مقتنعاً. وحدها طرابلس لا زالت تمتلك في شرايينها وأجيالها التعدد الذي يعرّف مدينة بحق، تعدد ديني ومذهبي واثني (السنة والروم والارمن والعلويين وبعض الشيعة من القرى المجاورة)، تعدد التوجهات والطبقات الاجتماعية ما بين الحداثيين وابناء اليسار وابناء الثروات الطائلة وابناء احياء المحرومين وحوش العبيد والتبانة حيث النزاعات متفجرة أحياناً. لكن الأهم ان أجيال طرابلس لا زالت تمتلك وعياً بانتمائها إلى مدينة، يشترط قيامها التواصل ما بينهم برغم هذه الفروق. كثيراً ما تبدى هذا في مبادرات الطرابلسيين كل مرة شعروا بانتهاك هذا التواصل، فبادروا دون تمييز ما بينهم إلى الرد على حرق مكتبة الأب سروج بتنظفيها وتعزيزها بالكتب والتبرعات، وبادروا إلى مواساة المصدومين واسعاف الجرحى ولملمة الشظايا اثر التفجير المزدوج أمام مساجدها، ولا زالوا مستمرين في مبادراتهم السلمية من استملاك الكورنيش بالركض والدراجات وحماية الحياة البحرية، إلى الاستمتاع بالشعر والموسيقى في حانات مينائها.
هذا التواصل، الذي شكل دائماً نواة وجود واستمرار فرق اسعاف الصليب الأحمر فيها، هو أيضاً نواة الكورال، الذي يستمتع بأداء الموشحات والقدود واغاني فيروز بتوزيع وتحت اشراف ارمني مثلما يتفتح أعضاؤه على فنون التصويت الأوروبي والأرمني ويطبقونها على قصائد فصيحة أحياناً، وينسجون برهافة ودقة توازناً ما بين الأداء المنضبط الهارموني وبين مساحات ارتجالية تترك للطرب مجاله الضروري في الغناء العربي. هم يغنون دون عقد نقص ولا عقد خواجة، وأيضاً دون عقد عظمة.
في هذا المعنى تمتلك طرابلس فكرتها عن المدينة وتظل تدافع عنها كلما احست بالتهديد. لا يمنعها الفقر عن استقبال قدر كبير من اللاجئين السوريين، ولا تفرض عليهم حظر تجول مقيت وغير قانوني كما لا تستغلهم مالياً أو تضطهدهم كما يفعل آخرون. المدينة قائمة في وجدان أبنائها ولا يتهددها ضيوف ولا انفتاح على الآخرين، كما لا يتهددها انقطاع التواصل بين احيائها، حيث ينتشر أبناء عائلات كبيرة فرقهم المستوى المالي وتظل تجمعهم روابط وثيقة.
خلافاً للمدن الأصغر، التي لا تملك مثل هذا التنوع أو التواصل ولا يقينا برسوخ نواتها، وخلافاً أيضاً لبيروت المنقسمة بشدة والتي تحللت فكرة الانتماء إليها ناهيك عن الدفاع عنها، يمكن لطرابلس أن تنتج كورالاً يجسد تعدد خيوط نسيجها والتواصل الذي يشدهم بعضهم إلى بعض دونما خوف ولا عقد.
المخلّص ذو النظارات السوداء في الماتريكس، يتمتع المخلّص ذو النظارات السوداء بقدرات خارقة لكن مصدرها بسيط: ادراك أن المصفوفة لا حقيقة لها، وأن سيل الزيف قابل للتلاعب به وتوجيهه في سبل شتى. إن كان كل شيء وهماً وزيفاٌ، لا شيء يمنع أن يكون هناك سوبرمان أيضاً! بدلاً من تخريق مظلة المصفوفة بأجزاء من حقيقة لا تطال، يجري تخريقها بمزيد من الزيف والوهم والتلاعب، إلى أن يصل الأمر إلى تفجير المصفوفة بفائضه!
قد يكون هذا أملاً في لبنان! بدلاً عن أن نقف في وجه فساد اللغة علينا، ربما، أن نزيدها فساداً بانزياحات جديدة اضافية. لنرى مثلاً إن كان يمكن أن نحتفل لا فقط بالفراغ الرئاسي بل أن نرى فيه عبقرية لبنانية، عبقرية البلد الذي يستمر في غياب اي نوع من انواع السلطة المنظمة! لا حاجة لنا بالسلطة، فلنعش مباشرة ما بيننا! لنتفكر في ما يمكن ان يحدث لو اقتنع اللبنانيون جميعاً بأن الصراع على السلطة لا معنى له لأن السلطة غير ضرورية، بل غير موجودة أصلاً، كما الدستور والميثاق! كل هذا الكذب ينبغي ان يواجه بكذب مواز بل اعظم. لبنان أيضاً غير موجود، وربما لم يكن يوماً موجوداً! حتى اغاني الرحابنة التي تقول "بحبك يا لبنان، بشمالك بجنوبك بسهلك" لا تكفي ولا تثبت له وجوداً متأصلاً ومتكاملاً، فإما أن هذا اللبنان بلا جبل، وإما أن شماله وجنوبه وسهله ملحقات بالجبل الذي لا ينطق اسمه، كالاله المتعالي في اليهودية!
المخلص الآتي لا بد كذاب كبير، بل هو الأكبر بالضرورة من كل الكذابين الصغار الذين ابتلينا، لا بكذبهم بل بصغارهم! المخلص الآتي ليس فرداً، بل شعب كامل يرى في الكذب وسيلته لتفجير العيش بعد اللغة!
في الاقتصاد كان متوسط الدخل الفردي في لبنان اكثر من ضعفي مثيله في سوريا، ويفوق كل البلدان العربية غير النفطية. رغم ذلك، لبنان هو الطفل المريض دائماً الذي يحتاج جرعات من مساعدات متواصلة وهبات وودائع ومؤتمرات دولية.
كانت ميزانية الدولة اللبنانية تسجل عجزاً يتنامى كل عام، وكانت الحروب تتفجر كل عام، والاغتيالات تتواصل والاستقرار يهتز، في حين يفتخر السياسيون والاقتصاديون واللبنانيون عموماً بالمعجزة اللبنانية المتمثلة في قطاع مصرفي صلب كالحديد! في ظل غياب الأمن، تضاعف سعر العقارات أضعافاً مضاعفة، وازدادت حركة البناء بما يتلاءم طرداً مع ازدياد الهجرة من البلد! وانتقد اللبنانيون حضور العمال السوريين، في حين أنهم وحدهم من لا يزال يمتلك مهارات الزراعة، نواة الأغاني الوطنية المتغزلة بلبنان الأخضر!
في العالم كله، ينبني الاقتصاد، في صيغته الحالية القائمة على البورصة والاستهلاك، على شائعات الثقة أو الأزمة، كما على مزاجات الاستهلاك أو الخوف. تتحدى المعجزة الللبنانية هذا التوجه العالمي، إذ تبني اقتصادها على تصدير لا ينقطع للألماس (غير الموجود أصلاً في لبنان) وعلى مزاج التحدي الحربي المربح. كما تبنيه على مصارف لبنانية تمتلك هي ديون الدولة اللبنانية، زيتنا في دقيقنا كما يقال. غير أن الزيت نفسه لم يعد باب أول، ولم يتبق من معاصره سوى أطلال عفنة الرائحة، مثل جبال النفايات على امتداد الساحل. مفارقات الاقتصاد اللبناني لا علاقة لها بحقيقته! بل هي، حصراً، مفارقات متولدة عن التزييف المتواصل للعلامات التي بها يستدل على حال الاقتصاد. لذا فإن من يمتلك السلطة الفعلية هاهنا ليس من يعدّ فاعلاً في الاقتصاد، بل من يعدّ واضعاً لهذه العلامات ومزيفاً لها! لا حدود لما يمتلكه الماركيتينغ المفاهيمي من قدرات!
الغواية والحرية ربما كان ثمة سبيل آخر لكسر المصفوفة، بحسب بودريار، ذاك هو سبيل الغواية واللعب. ذاك ان اللعب يعلق مفاهيم الجدية وحساب المغانم، مثلما أن الغواية لا تهدف إلى غاية سوى استمرارها واستمرار التبادل بدل المراكمة التي يسعى إليها كل نظام يتطلب تركز السلطة في يده. الغواية واللعب تُحلّان محل الشبكة الزائفة شبكة أخرى من السيولة اللعوب، سيولة في الهويات تمحو التضاد، وسيولة في التواصل حيث تنقلب اللعبة مراراً وتكراراً دون خسارة ولا نصر، وسيولة في المرح الذي يمنح الغواية متعة الأطفال يلعبون الكرة على رمل الشاطئ.
لذلك نتطلب طرفاً غاوياً وآخر مغوى يقبلان تبادل مواقعهما في هذه اللعبة. وهذا شرط لا يتوفر عليه أي سياسي او حزب، تعريفاً، حيث لا تجيز لهما المهمة التي يدعون الندب إليها أن يصيرا إلى موقع المغوى المنفعل.
بالمقابل، يمكن للمدن أن تتبادل هذه الأدوار، مثلما يمكن لها أن تلعب لعبة الغواية مع مجموعات مختلفة من البشر (الشباب، الفنانون، الهامشيون.. الخ)، شرط أن يكون لديها مقومات الغواية ورغبة في اللعب!
هل نجرؤ على التخلي عن التراكمات المصرفية وحسابات الديون لنمضي في غواية بين المدن ومعها إلى حيث قد نجد حرية، تسمح لنا بأن نضحك حين نكذب بدل أن ندعي أننا صادقون في ما نصفه أنه حياتنا؟