كلما أعجبني نصّ لإتيل، ترجمته. وهي لم تبخل بتزويدي بنصوصها. كثيراً ما تُشبّه الترجمة بالخيانة. على العكس من ذلك، مارستُ ترجمة إتيل بما هي فعل حب ورغبة في الاستحواذ. فكل مترجم يحمل شهوة مكبوتة ومراوغة: أن يكون هو مؤلف النص لأنه قد ألّفه في لغته.
في الأسلوب، أريد أن أتحدث عن إتيل سيدة الضغط والتكثيف في القول. تقطّر الكلام تقطيراً في عملية طبيعية، بل جسدية من غير ما جهد أو تصنّع. اسمعها تلخّص ساحر الجاز الأميركي ديوك إلينغتن بعبارة من خمس كلمات: «إنه يحوّل الضجيج إلى مُخمل».
وتمارس إتيل عملية التقطير ذاتها في الرسم والتصوير. أنظر إلى لوحاتها الصغيرة الحجم. ليست منمنمات. تضيق رقعة الصورة لتتسع الرؤية، مع الاعتذار من النفّري.
من كان يتصوّر أن هذا الوجه الطفولي يحمل كل هذا القدر من الدهاء والفطنة والعمق والمثابرة والشجاعة، بل تلك الرحابة الإنسانية؟
كاتبة ومناضلة نسوية. نسويتها غير المدّعية هي رهافةٌ وقوة معاً. لا تتغرغر بأنّ الأنثى هي الأصل. ولا تغريها الأصولية. تلعب بالأسطورة: المرأة هي ما فقده الرجل منذ آدم. والأنثى هي النقصان في الذكر. يقضي الرجل الأعمار والدهور لاستعادتها.
وإتيل برهان حيّ على أن التزام قضايا الحرية والعدالة والمساواة يغني الأدب، بل هو التزام قابل لأن يشكل نقلات نوعية في أشكال التعبير والتفكّر والجمالية. لا خطابة ولا حماسة ولا ظفراوية هنا. التجربة أغنى وأوجع. فإتيل عدنان ابنة الجيل الذي هزّته هزيمة حزيران ١٩٦٧ وانتشى بانتصارات الجزائر وفيتنام ووضع المخيّلة في السلطة مع طلاب وشباب العالم في ربيع ١٩٦٨، الجيل الذي مجّد تشي غيفارا نموذجاً للإنسان الجديد.
فها هي تهتف: «أيها الشعراء، غيّروا العالم أو اذهبوا إلى بيوتكم!»، وهي رسالة تنسحب على جميع من أنتج بالحرف أو الخط واللون أو الحفر أو عبّر بالجسد.
لعل إتيل أول شاعر عربي ذكّرته مأساة الهندي الأحمر بالإنسان الفلسطيني المقتلع والمشرّد والمجمّع في معازل تسمّى مخيمات وبانتوستانات السلطة الوطنية. تخترق فلسطين كل نتاجها بدءاً بـ«يبوس وإكسبرس بيروت-الجحيم» (١٩٧٣) حيث تودّع جمال عبد الناصر وتستقبل الفدائي الفلسطيني وتبشّر بأن «الثورة على الطريق». لكنها في رائعتها «سفر الرؤيا العربي» (١٩٨٠) تصوّر الحروب والهزائم العربية بالصراع بين شمس وقمر. «الشمس بركة دم»، قالت وأردفت: «شاهدتُ بيروتَ المجنونة تكتب بالدم: الموت للقمر». في هذا النص المتفرّد قررت الشاعرة أن تتحدى اللغة بواسطة الحرب والحربَ بواسطة اللغة. فجّرت اللغة لتتشظى مثل انفجار قنبلة أو تخلّع بيت أو تطاير أشلاء. وإمعاناً في التحدي، خلطت إتيل الحروف برسوم ورموز وتعاويذ في هيروغليفية تقول عجز اللغة أمام هول المآسي.
في «عن مدن ونساء: رسائل إلى فواز» (١٩٩٣) نسيج من العلاقات بين مدن ونساء ووصف جارح لبيروت الخارجة من الحرب. وقد سجّلت إتيل الغزو الأميركي للعراق في نصها المدهش بعنوان «في قلب قلب بلد آخر» ( ٢٠٠٥)، حيث التكرار يوقّع نبض المشهد اليوميّ لامرأة تعيش «في بطن الوحش» فيما القنابل تنهمر على بغداد.
وفي كل الأحوال، لم تغب سورية مرة عن هموم إتيل، كتبت: «سورية لها نهران، الفرات ونهر من الدم»!
هذه المرأة التي «تفضّل الموج على البحر»، كان سعيها المتواصل نسج علاقات بين الفلسفة والفن والشعر، قدر ما سعت لنسج العلاقات بين البشر، ولسان حالها أن «الحياة نسيج».
يبقى أن الحُب كان لُحمة حياتها وسداها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها