السبت 2024/07/27

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

"هوّارية" للجزائرية إنعام بيوض...انحطاط المجتمع ترويه النساء

السبت 2024/07/27
"هوّارية" للجزائرية إنعام بيوض...انحطاط المجتمع ترويه النساء
تكشف زيف الرؤية الدينية والأخلاقية لتراث متحجر
increase حجم الخط decrease
هي رواية المرأة عن حقيقة المجتمع: العلاقة مع الرجال، الاقتصاد البيتي، الدين، حرية الرأي، الخرافة، ورواية المرأة تشير في ثقافتنا الذكورية، عياناً، إلى الأسس الحقيقية في المجتمع. وهي هنا: العنف، المخدرات، السقوط الأخلاقي، الأصولية الدينية، فوضى الهوية والمعايير وغياب القانون، وفشل نظام الدولة في التنمية. ومجتمع وهران الصغير عيّنة للمجتمع الجزائري في حقبة من الحقب، هي التسعينيات على الأغلب، إبان تفشي إرهاب المجموعات الدينية الأصولية.

في هذا النص المشغول بمشاعر نسائية واضحة، لوحظ استخدام واسع للهجة المحلية غير المفهومة للقارئ العربي. مما شكل عثرات كان يمكن معالجتها عبر تقريب اللهجة إلى العربية البسيطة. ولوحظ كذلك تشتت الحدث كونه يُرى وُيروى من عدد كبير من الشخصيات، نسائية أغلبها. شخصيات تتبادل الحكاية في الزمان والمكان، وكل منها تحفر في منجم الواقع الوهراني بدقة، وأناة.

شخصيات مثل هوارية، هدية، هند، هاجر، هناء، وغيرها، كلها مصابة بلوثة ما، بالذهان، والجهل، والرعب، والخطر الوجودي على حياتهن. أجل، هن كما يوحي النص، ضحايا العنف الذكوري بالأساس، والعنف المجتمعي المتواطئ مع الماضي ورجل الدين، والفهلوي، والكاذب المخادع، لكي يديم بقاء الوثن ذاته. أي التقاليد العتيقة، والديكتاتوريات الاعتبارية في المجتمعات المصغّرة، والهيمنة الذكورية، والنظر للمرأة كوعاء للولادة، واللذة، والخدمة في مطبخ البيت. عدا هذه الأدوار فهي عاهرة، مختلة العقل، قارئة كف، عرّافة لشبيهاتها من الضحايا. وربما ساحرة. وكانت بحق قراءة واعية من قبل الشخصيات، وربما الكاتبة، لما يجري في المجتمع، ولما يجري من أحداث وغرائب لكل شخصية.

وذلك هو المشترك مع مجتمعات عربية، وإسلامية. والمشترك فيها أن معظم تلك المجتمعات، إذا ما رفع الغطاء عنها، وحطمت تابوهاتها، وانطلقت من قاعها صرخاتها، سنرى أنها تعيش المأساة ذاتها. العنوان الرئيسي لهذه الرؤية هو عناوين دينية كاذبة، وصرخات أخلاقية مفتعلة ترفض الاعتراف بالسقوط الأخلاقي، والقيمي، لمجتمعات داؤها التخلّف والوعي الخرافي والديني الذي لا يمت بصلة للحاضر. والحاضر، في الحقيقة، هو ما تعاني منه مجتمعاتنا.
عدد كبير من الجزائريين، والعرب، يحلمون بالوصول إلى مجتمعات أوروبا كونها تعطي الحرية للبشر، وتؤمن بحرية الدين والإلحاد، وحرية الاختلاف في التفكير والرؤية. وفوق هذا وذاك وجود قانون يحافظ على التوازن المدني، ولا يأبه للمقدس الكاذب، والمختل عقليا، بل ينظر إليه حسب القانون.

وتعيد سردية هذه الحكاية سرديات دينية ماضية كانت الأجيال شهوداً عليها. وهذه نماذج لحراس الفضيلة من تاريخهم القريب: بعد أيام من فوز جبهة الانقاذ الجزائرية في الانتخابات، أفاق الناس ووجدوا كل التماثيل النسائية، رومانية ويونانية في الحدائق العامة مغطاة الوسط بالقماش، حفظا للعورة. وبعد أسابيع من فوز الأخوان المسلمين في مصر بالانتخابات، وظفوا مفتياً في كل محطة قطارات ونقل، للإفتاء في ما هو حلال وفي ما هو حرام. وقد اكتشف الناس في ظل حكم جبهة النهضة التونسية أن هناك مكتباً لتجنيد التونسيين كي يجاهدوا في أماكن بعيدة خدمة لمشروع الأخوان المسلمين، ومشروع الخلافة الإسلامية باعتباره بديلاً عن مجتمعات الحداثة المارقة. أما في ظل حكم جبهة النصرة في الشمال السوري، فتفتق ذهن حراس الدين عن موضة فرض النقاب على النساء. والنقاب ليس الحجاب التقليدي المعروف، بل هو غطاء لا يبرز سوى العينين. ابتكرته الأصولية المتطرفة التي ترى في المرأة كلها عورة، وعاراً، ونجاسة. أما العراق بعد الاحتلال، وهيمنة الأحزاب الاسلاموية، فكانت الفتيات غير المحجبات يرششن بالأسيد، في بعض المدن والشوارع، أو يعنفن وسط الساحات. وقد وضع منذ فترة قانون زواج القاصرات دون سن العاشرة أمام البرلمان. وحين بانت خصلة من شعر مهسا أميني، تم قتلها من قبل شرطة الأخلاق، ونشبت ثورة إيرانية كادت تطيح بحكم الملالي. وليس بعيدا عن بيروت تنادى أصوليون يحملون العصي لتفريق جمهور تجمع لسماع الأغاني والموسيقى، وتم لهم الأمر، فيما تسقط البلاد في الظلام الكهربائي بسبب الافلاس، والفساد، والتصدع الطائفي المجتمعي.

وهكذا، في هذه الرواية حدث الأمر ذاته، وقرأنا الأصداء ذاتها. وطبعاً حراس الشرف يغفرون للرجال موبقاتهم أو يتغاضون عنها. والمرأة هي المستهدفة لأنها وكما علمتنا الحضارة الحديثة، هي البارومتر لأي مجتمع. تخلفها تخلفه، وتطورها تطوره. حقوقها حقوقه، وظلمها ظلمه. والخريطة مرسومة تحت أبصار الجميع.

تقول هوارية، شخصية الرواية الرئيسية وهي تصف حالها: "كنت في ذلك الوقت أعيش حالة صخب شديد في داخلي. أصوات متداخلة ومتنافرة، صرخات استغاثة، أنات ألم وفجيعة، بكاء أطفال، حتى الحيوانات يصلني صدى شكواها. وما إن أفتح فمي لأنطق بشيء حتى تتزاحم تلك الأصوات كما لو كانت تريد الخروج مجتمعة. فيصدر عني لغط غير مفهوم يخيف من حولي وخاصة أمي التي يحمر وجهها حرجا. لذلك قررت الصمت". كل ذلك كان يجري في مدينة "وهران" الجزائرية التي تقول عنها الأغنية الشعبية: وهران وهران رحت خسارة/ هجروا منك ناس شطارى/ قعدو في الغربة حيارى/ والغربة صعيبة وغدارة.

لكن هوارية الوهرانية لم تصمد طويلاً، فأطلقت صرختها، مع رفيقاتها في هذه الرواية، لتفضح مجتمع الانحطاط الخلقي، والديني، والسياسي، والتاريخي.
شخصيات مدمّرة، مهشمة، يائسة، حائرة في خياراتها، لأن كل الخيارات قاتلة.
شخصيات كانت تفضح المستور وتثير الأسئلة. ولا يلبث دعاة الشريعة، والفضيلة، والأخلاق، حتى يقرأوا الرواية فينطوا حولها، ويقولون صارخين: مجتمعنا ليس هكذا. وهم يكذبون طبعاً، ويرومون من هذه الصيحة التغطية على عوراة مجتمعات متخلفة. تخلفت من اللحاق بالحضارة المرتكزة على العلم، والتربية المدرسية، والبحث، والمؤسسات، وحقوق المرأة، والتنوير، والقانون الذي ينصف الجميع، والتنمية، وحرية الصحافة. فرض الحجاب وتزويج القاصرات، ومنع الغناء والموسيقى، وصرخات التكفير، والتضييق على حرية المرأة، كل ذلك وغيره هو الشائع، والمتحكم، في معظم المجتمعات العربية والإسلامية.

أما القطيعة مع الحضارة الغربية العلمية، فهي عنوان لكل تلك الأصوات الناعقة. وهي محاولة بائسة تنادت بها طالبانات الشرق فلم تورثها سوى الجوع، والمرض، والتخلف العلمي، والعزلة، والعنف السائد المتفشي مثل حبات الكبتاغون. وهذه الرواية عيّنة عن كل ذلك. رغم أنها متعبة لقارئها، لأسباب كثيرة منها تعدد الشخصيات، وغياب الخيط اللاضم للأحداث، والحوارات غير المفهومة لقارئ غير جزائري، لكنها كموضوع، هي تحفر في المحرم، والمخفي، والمقموع لغة وواقعاً.

إنها تكشف زيف الرؤية الدينية والأخلاقية لتراث متحجر. تراث تعيش في ظله كائنات تلتهم بعضها البعض، وتكفّر بعضها البعض، وفي بيئة منحطة يحكمها العنف. والعنف لا يولّد لدى البشر سوى أحداث مثل التي حكتها لنا الرواية، بلعثمة بعض الشيء، لكن بجرأة وشجاعة. لا غرابة في ذلك، لأنها جاءت عبر قلم امرأة واعية تدرك جيداً ما يدور في دهاليز بلدها الجزائر.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها