الأحد 2024/05/12

آخر تحديث: 07:31 (بيروت)

ملاحظات حول الرواية وعلم النفس

الأحد 2024/05/12
ملاحظات حول الرواية وعلم النفس
إن بعض علماء النفس قد استفادوا بدورهم من الأدب لإشاعة نوع من الثقافة النفسية
increase حجم الخط decrease
منذ فرويد ومدرسته التي جمعت رواد هذا المجال، استفاد علم النفس والتحليل النفسي من الأدب، حيث أنجز فرويد تحليلات للأعمال الأدبية لا تنسب لمجال الأدب والنقد، وإنما للتحليل النفسي. فكيف استفاد الأدب بدوره من علم النفس؟ كان هذا سؤال الندوة التي شارك فيها كل من شاكر الأنباري من العراق، وأسماء علاء الدين من مصر، وحسن المودن من المغرب، وأدارها أحمد محمد عدة، وقد أقيمت الندوة في صالة الحوار. وقد وجدت من خلال هذا السؤال أن المشترك حسب رؤيتي، بين التحليل انفسي والأدب عموما، أو الرواية على وجه الخصوص، هو الإنسان. 

حركات فنية كثيرة استفادت من التحليل النفسي، خاصة ما جاء به فرويد من تصنيفه للاشعور، واكتشافه هذه صار دليلا للحركة السوريالية على سبيل المثال، فتأسست الحركة وكان أبرز وجوهها أندريه بروتون وأراغون وبيكاسو ودالي وغيرهم من الرسامين والشعراء والكتاب. ربما أبرزت اكتشافات علم النفس لتركيب الإنسان تيار الوعي في الرواية، والتداعي الحر لكثير من الروايات، واستخدمت الأحلام وتفسيرها، مما أعطى دفعة هائلة لتعدد الأساليب الكتابية. لقد أصبحت قراءة الرموز اللغوية ذات دلالات أخرى لدى الناقد وهو يحلل المضامين النفسية والأفعال لدى الشخصيات، وهذا كله من نتائج علوم التحليل النفسي ومصطلحاته كما أوجدها رواده مثل سيغموند فرويد، وكارل يونغ، وإيريك فروم وآدلر. وكلنا يعرف ما كان لمدرسة التحليل النفسي من شيوع في الثقافة العربية، وهذا ما وسّع من أفق المثقف العربي وطريقة فهمه للفرد من أبناء وطنه. نقل فكر المثقف العربي في رؤية واقعه وبشره من المراقبة الخارجية، كما ظل سائدا لقرون في الثقافة التقليدية، إلى رصد الانفعالات الداخلية. وعلى صعيدي الشخصي كتبت رواية بعنوان "كتاب ياسمين" وهي تبحث في ترابط الوعي مع الجسد، ورؤية الحاضر بدقة دون وجل. وتجربة مفهوم التصوف في رؤية بطل الرواية حول الحياة اليومية وما هو المهم والأهم، واستفدت كثيرا من الرياضات الصوفية كالتأمل مثلا وتأثيره على الفرد. 

أما كيف ساهمت الدراسات النفسية في خلق فرص للأدباء في بناء شخصيات أدبية مُركَّبة ذات تأثير مشوّق، فكانت المقاربة هي أن استكشاف مجاهل الروح البشرية، وتناقضاتها، قدم رؤية جديدة للإنسان. خرجت به من الرؤية الدينية إلى الرؤية الواقعية كبشر له أهواؤه ومخاوفه وأحلامه وموروثاته القادمة من تكوينه ككائن حي يشترك مع الكائنات المتنوعة التي تعيش على هذا الكوكب. فهو يشترك بجيناته مع الديدان والقواقع والزواحف الدقيقة مرورا بالسمك وانتهاء بالقرود، وبهذا يتطابق التحليل النفسي مع العلم واكتشافاته الحديثة عن التكوين البيولوجي للبشر. وذلك كله يضيء تناقضات الروح البشرية ودوافعها الحيوانية أحيانا، ونوازعها غير المفهومة. 

سواء في الشعر، أو الرواية، فتح اللاشعور ومجاهيل البشر وتناقضاتهم وتساميهم أيضا مجالا واسعا لخلق شخصيات روائية غريبة، متناقضة، تغوص في همومها الفردية أكثر مما تعيش هموم المجتمع كما في الكتابات الكلاسيكية. وعلى صعيد التجارب الروائية التي اشتغلت على هذه المفاهيم، تندرج ربما روايات اللبناني رشيد الضعيف في استفادة الكاتب من التحليل النفسي، واستبطان المشاعر الداخلية للشخصيات. "تصطفل ميريل ستريب"، و"ليرننغ انغلش". 

يونغ في دراساته عن الذاكرة الجمعية، استطاع التأسيس هو الآخر لدراسة فضاء اجتماعي عام، وهنا يتم التقاطع مع الرواية باعتبارها معلما لفضاء اجتماعي له مكان وزمان في العالم أجمع. لا تنفصل الذاكرة الجمعية عن روح الشخصيات الروائية، ومثال ذلك نجيب محفوظ في مصر، وفؤاد التكرلي في العراق. وابراهيم الكوني في ليبيا. وعبد الرحمن منيف. وغيرهم. كذلك دراسة إريك فروم عن رواية "القضية" لكافكا ورموزها، ومعاناة جوزيف كاف في مجتمع بيروقراطي لا يعرف فيه الفرد تهمته. أو دراسة فرويد لمسرحية أوديب ملكا لليوناني سوفوكليس حول أوديب وقضية قتل الأب، فيما سماها فرويد عقدة نزوع الطفل لقتل الأب والزواج من الأم. 

إما إلى أيّ حدّ أسعف التحليل النفسي النقاد في تحليل هذه الشخصيات في ثقافتنا العربية فجوابه سيكون متشعبا ويعتمد على العين الفاحصة. لعل ضعف انتشار الدراسات النفسية المحلية قد أسهم في جهل المجتمع لنفسه، بالتالي ضعف في فهم الشخصية العربية مما انعكس سلبا على شخصيات الروايات العربية وتحليلها ورصدها روائيا. هناك خلل بنيوي في ثقافتنا العربية هي شيوع الذهنية الخرافية الأسطورية نتيجة تراكم الموروث الديني والخرافي وغياب الذهنية العلمية. ونحن نعرف صلة اللغة عموما بواقع المجتمع. وتعتبر فتوحات إريك فروم في اللغة الرمزية مهمة لكتابة السرد الروائي، واستكناه أحلام الشخص وعلاقتها بالواقع الخارجي. هناك أيضا تراث عربي كثير حول تحليل الأحلام مثل إبن سيرين، ومرويات الجاحظ عن البخلاء، ومحاورات أبو حيان التوحيدي في كتبه وهي ترصد الأشخاص المتحاورين وحقيقتهم في الواقع. ثم هل فقط الأدباء من استفادوا من علم النفس في بناء شخصياتهم والعوالم النفسية لهؤلاء الشخصيات؟ كلا بالتأكيد. 

استفاد علماء الاجتماع من الدراسات النفسية مثل علي الوردي في دراسة المجتمع العراقي، ود. مصطفى حجازي في دراسة سايكولوجيا الإنسان العربي المقهور، والانسان المغدور وشخصية المستبد والجلاد، وتمظهرات العصبيات، كالطائفية والتطرف القومي والحزبي. واستشهد حجازي ببعض شخصيات رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف، ورواية "يالو" لإلياس خوري. بل حتى نقاد الرواية والشعر استفادوا من هذا الجانب. هناك أيضا التصوف، الذي فرض نفسه على عوالم الكتابة سواء الشعرية أم الروائية، ويمكن ذكر بعض روايات نجيب محفوظ مثل رواية أولاد حارتنا. قصة حب مجوسية لعبد الرحمن منيف، وبعض روايات ابراهيم الكوني. 

إن بعض علماء النفس قد استفادوا بدورهم من الأدب لإشاعة نوع من الثقافة النفسية في المجتمع من خلال أعمال تربوية تثقيفية تتخذ لبوس الأدب، لكن هذا يحدث في الثقافة الغربية بشكل خاص، مثل التحليل النفسي لديستويفسكي، وكتاب فريزر الغصن الذهبي، وروايات كافكا وقصائد شكسبير، وإليوت في الأرض الخراب، وغير ذلك. أما في ثقافتنا العربية فلم تستوعب الدراسات النفسية المنتج الأدبي العربي، ببساطة لضعف الحقل النفسي في ثقافتنا، وقد ظل هامشيا في علاقته بالأدب.  ظل محصورا في عيادات الأطباء والجامعات دون التعرض للمنتج الأدبي. 

النقاد للشعر والرواية ربما استفادوا من علم النفس لتحليل النصوص. مثلا نقد شعر السياب وكيف استخدم أساطير وادي الرافدين في شعره على سبيل المثال. سايكولوجيا الإنسان المقهور، والانسان المهدور، والعصبية المجتمعية، وعلم نفس الطاغية، وسايكولوجيا المستبد، وثقافة القطيع، وآليات الترويض، وغير ذلك من مفاهيم اجتماعية أجاد د. مصطفى حجازي في تحليلها في مجتمعاتنا العربية. وهي بحوث ضرورية لأي مثقف ومبدع لفهم أدوات التخلف في عمق الفرد العربي. كذلك مفهوم الحب والكبت الجنسي والعاطفي داخل المجتمع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها