السبت 2024/06/08

آخر تحديث: 13:30 (بيروت)

تداعيات باريسية

السبت 2024/06/08
تداعيات باريسية
باريس من أعلى كاتدرائية نوتردام (غيتي)
increase حجم الخط decrease
تطأ قدماك أرض المطار، مطار شارل ديغول، فتنبثق صورة باريس من الذاكرة بهيئتها البانورامية، بأوابدها، وشوارعها، وأسماء مشاهيرها اللامعة. 
الأسماء التي تتلمذت عليها في الشعر، والرواية، والفكر، والفن، منذ نصف قرن. 

رامبو طبعا، وفيكتور هوغو وأندريه بروتون وأراغون وسارتر وألبير كامو. ثم مغنيتها ذات اللثغة الساحرة أديث بياف، وأغنيتها، لا، لست نادمة على شيء: لا، لا شيء إطلاقا، لا، لست نادمة على شيء إطلاقا، لا الخير الذي قدّم لي، ولا الشر، كلها بالنسبة لي متساوية. كل شيء دفع ثمنه، وتلاشى، وطواه النسيان. لا يهمني شيء مما مضى، من ذكرياتي. لقد أوقدت النار، وأحزاني وأفراحي لن أحتاجها بعد الآن. تخلصت من العشاق ومن كل مشاكلهم، تخلصت منهم إلى الأبد، وسأبدأ من الصفر. لا لست نادمة على شيء إطلاقا. 

أديث بياف المنهكة، الراعشة الصوت، غير الواثقة من دموع جمهورها وهي تنهمر من مآقيهم، دفعتها باريس إلى موتها المبكر قبل أن تبلغ الخمسين عاما. وهكذا فعلت مع جان جينيه، اللص السجين، الذي أصبح من رموز فرنسا، والعالم المقاتل ضد الظلم والقسوة البشرية.

وسترى تفاصيل منطقة كليشي التي عاش فيها هنري ميلر وكتب عن غربته الأوروبية، هو القادم من أميركا. كتب، طبعا، مدونته الخالدة عن رامبو وزمن القتلة. 
من هم القتلة؟ هل يعيشون بيننا اليوم؟ بالتأكيد، وعليك أن تنظر حولك. 

وماذا عن الغد؟ 
نهر السين، وكاتدرائية نوتردام، وبرج إيفل، وساحة الحرية. باريس الثقافة لا باريس السياسة. باريس بودلير وألن ديلون وأندريه مارلو، لا باريس نابليون بونابرت والجنرال بيتان. باريس الكومونة لا باريس اليمينية مارين لوبان. 

متحف اللوفر وحدائق اللوكسمبورغ والحي اللاتيني. والمركب السكران يترنح فوق برج إيفل ووجهته ذلك الشرق البعيد، حيث عدن وإفريقيا الحالمة بالحرية. 
وكأنك ستفاجأ بلقاء شخص سمعت عنه الكثير ثم تقدم على ملاقاته جسدا، وروحا. 

كانت باريس من العواصم الأوروبية الكبرى التي ظللت عقودا وأنت ترغب في لقائها، لكنك تؤجل هذا اللقاء سنة بعد أخرى. أسابيع وأنت تفتح خريطتها لتتملى في شوارعها وساحاتها وخطوط المترو، وتستعيد الأمكنة والأزقة والأحياء التي مرت ذات يوم في كتاب يتحدث عنها، أو فيلم رأيت صوره فيها، أو رواية جعلت من هذه العاصمة مكانا لأحداثها. تلاحق هذا السؤال عمّا جعل هذه المدينة تتمتع بكل الثقل والروعة في الذاكرة العالمية. ما هي ميزتها عن باقي مدن الكوكب؟ هواؤها، تاريخها، موقعها الجغرافي، نساؤها، خفة روحها؟ ربما كل ذلك. فللمدن أرواح أيضاً، يحبها الزائر أو يمقتها، يغازلها مثل فتاة جميلة أو يقترب منها بتحفظ. 

وحين تبدأ الغربان مهرجانها، صباحا، بالزعيق المنفر، سافر ظهراً إلى حدائق النور. 
فمن زاوية نائية على هذه الكرة الأرضية القلقة تتأمل في شريط الأحداث، وعيناك مفتوحتان. 
في مدينة تخاطب الذاكرة، تتبّع خطوات المصري طه حسين مقاداً من الفرنسية زوجته سوزان، وهما يمضيان بين جامعة السوربون ومقاهي الرصيف. 

توفيق الحكيم وسهيل إدريس وأمين معلوف وعشرات الكتّاب العرب من عراقيين وسوريين وجزائريين ومغاربة ولبنانيين ويمنيين نضحت نصوصهم، شعراً ورواية وسِيراً، بروائح باريس، وموسيقاها، وخمورها، ولوحاتها وطيورها وفاتناتها وأحيائها التي لا تنام. وقبلهم كتاب روس وأوربيون شرقيون كان أشهرهم الكاتب الروسي إيفان بونين. 

غادر بونين روسيا نهائياً بعد مجيء الثورة الروسية، ولم يعد إليها. وعاش في باريس غريباً، متأملاً بروسيا التي ماتت، وجاهد كي يعيدها حية من رمادها عبر القصص، والروايات، والأشعار، لكنه طلاها بتلك الرهافة الحزينة، والشاعرية الراسخة في ما مات وانقضى. أصغر المشاهد وأدق التعابير، كمنظر قمر في ليلة صقيعية، أو خيال فتاة في شارع يطل على النهر، أو مرأى حوذي يحتسي الخمر من قنينة عزيزة على النفس بعد منتصف الليل. إنها شرنقة المغتربين، والمنفيين، ذات المخالب القاسية. مات بونين في باريس وعيناه على روسيا الطفولة. وبعده عشرات الكتاب والفنانين من أميركا اللاتينية وجدوا ملاذا في مدينة النور، بعد أن طاردتهم ديكتاتوريات لا ترحم، ولا تتعظ بسخريات المصائر. وكان أبرزهم غارسيا ماركيز الذي قضى أيامه الأخيرة، بعد أن انقطعت به السبل، في جمع القناني الفارغة من الشوارع، والساحات، وبيعها كي يبقى على قيد الحياة. ذلك قبل أن يتوج بجائزة نوبل.

يقول لويس أراغون عاشق إلزا: عيناك من شدة عمقهما رأيت فيهما وأنا أنحني لأشرب، كل الشموس تنعكس، كل اليائسين يلقون فيها بأنفسهم حتى الموت. عيناك من شدة عمقهما.. أضعت فيهما ذاكرتي. وكنتم تنشدونها بعد ثمالة شديدة في حانات بغداد العتيقة قبل زمن الحروب، والهجرات. 

لكل هذا التاريخ الممتد أمامك، وهو يلوح خلف الزجاج والزمن الحاضر، استجمع ذاكرتك إذن، وحواسّك كلها، وتوغل في حدائق النور التي سمّاها العالم باريس. 
اهبط فيها من سماء المٌثل إلى أرض الواقع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها