السبت 2024/07/27

آخر تحديث: 14:10 (بيروت)

محمود شقير... عن هناء عبيد و"ثرثرة في مقهى إيفانستون"

السبت 2024/07/27
محمود شقير... عن هناء عبيد و"ثرثرة في مقهى إيفانستون"
هناء عبيد تضعنا أمام شخصية المرأة التي يعذّبها زوجها
increase حجم الخط decrease
هي ليست ثرثرة، والعنوان لا ينطبق على مضمون الرواية ("ثرثرة في مقهى ايفانستون"، صادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع/عمان 2023). ولا إشارة بالتحديد إلى المكان الذي يشهد بعض أحداث رواية نجحت في تصوير معاناة الناس المخلوعين من جذورهم، المبعدين لسبب أو لآخر من أوطانهم، حيث الغربة والحنين والكآبة وغيرها من الأمراض النفسية، وحيث الحرص على التواصل مع أبناء البلاد المقيمين في بلدان الشتات، والإصرار على إحياء المناسبات الدالّة على الوطن، المعنيّة بإبقاء الوطن حيًّا في نفوس الناس.

تكتب هناء عبيد الفلسطينية، المقيمة في شيكاغو، روايتها هذه، بلغة سلسة جميلة، مستلهمة تجربتها الشخصية في الغربة وتجارب أناس آخرين عايشتهم أو سمعت عنهم، وتمعن في وصف الأمكنة بأسلوب جذاب مع بعض الإطالة في بعض الأحيان، وتستعين بتقنيات متعدّدة لإيصال الغاية المرجوة من روايتها. فتبدو في بعض الأحيان وهي تصف معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي، كما لو أنها ترصد ما يحدث الآن في قطاع غزّة من قتل للنساء وللأطفال، ومن تدمير للبيوت ولكل مناحي الحياة هناك.

وفي حين لجأ بعض الروائيين إلى تقنية العثور على رزمة من ورق، فيها رواية مطمورة في مكان ما، لوضع القارئ أمام رواية في داخل رواية، فإن هناء عبيد تضعنا أمام شخصية المرأة التي يعذّبها زوجها، واسمها سارة، صديقة بطلة الرواية سيرين. 

سارة هذه اقترحت على سيرين وهما في مقهى إيفانستون، أن تكتب سيرتها، ثم داومت على إرسال مشاهد من هذه السيرة عبر فايسبوك، ومن ضمنها مشهد تقتل فيه زوجها رمزي الذي يعذبها ويجعلها مجرد خادمة له ولابنه من زواج سابق. 

هنا في رواية هناء عبيد لا نرى إلا بعض المشاهد الخاصّة بسارة، صديقة سيرين، ثم تصاب سيرين بأزمة نفسية من جراء قتل سارة لزوجها، وتتكَتُّم سيرين على الجريمة، وبعد ذلك، تتشعّب أحداث الرواية، وتدخل في تفاصيل السرد امرأة فلسطينية مقيمة في أميركا هي فاطمة، التي أطلعتها سيرين على الرواية قبل أن تكتمل، ويدخل أيضًا صديق سيرين منذ الطفولة، وهو العراقي ليث الذي عاش طفولته وصباه في الأردن، بعيدًا من وطنه مثلما عاشت سيرين طفولتها وصباها في الأردن بعيدًا من وطنها فلسطين، حين اضطر أهلها إلى مغادرة البلاد من جراء هزيمة 1967.

عند هذا الحد يأخذنا السرد إلى منعطف جديد متمحور حول خوف سيرين من انكشاف تكتّمها على جريمة صديقتها سارة التي اختفت، ما جعلها حذرة في تعاملها مع فاطمة، وما جعل المرأة الأميركية العجوز نانسي تلاحظ في بعض الأحيان عدم اتزان سيرين التي تعمل في خدمتها.

في تلك الأثناء يظهر ليث بشكل فاتر عبر المراسلات في فايسبوك، حدّ اعتقاده أن صديقة الطفولة سيرين قد تزوجت، ما يؤدي إلى تصعيد الالتباس في العلاقة بينه وبين سيرين، ثم تكتشف هذه الأخيرة أن شخصًا آخر كان يراسلها منتحلًا شخصية صديقها ليث، والسؤال هنا: هل إلى هذا الحد تلتبس الأمور على سيرين وليث؟ وما دام فايسبوك قد لعب دورًا بارزًا في الرواية، ويمكن احتسابه واحدًا من أهم التقنيات التي استخدمتها هناء عبيد، فهل مثل هذا الالتباس ممكن من دون اكتشاف الحقيقة إلا بعد وقت طويل؟! هل هو اللعب بأعصاب المتلقي قبل كشف الحقيقة؟ أم هي الرغبة في تطويل السرد من دون مبرر معقول؟

في ما يتعلق بتقنيات الكتابة الأخرى؛ فقد استعانت الكاتبة بتعدّد الأصوات الساردة، حيث تناوبت على السرد غالبية شخصيات الرواية، لنكتشف في النهاية أن سيرين واسمها الحقيقي سارة إنما كانت تراسل ذاتها، وتعبر عن أزمة نفسية أصابتها، ربما من تأثير الغربة ومن تأثير البعد من الوطن، ويصبح واضحًا عدم وجود امرأة أخرى اسمها سارة، وبذلك تكون هناء عبيد قد لعبت لعبتها الفنية وأتقنت التمويه على القارئ إلى حد غير قليل. ويظل الأمر متعلقًا بمدى قناعة القارئ بمخاوف سيرين من انكشاف تكتّمها على جريمة قتل سارة لزوجها، إذ يمكن طرح الأسئلة  التالية: هل يمكن في هذا الزمن الحديث أن تُرتكب جريمة قتل ولا يشار إليها في الصحافة وفي مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث لا يظل الأمر طي الكتمان؟ وهل يمكن لامرأة أن تقتل زوجها ثم تختفي وتواصل مراسلة صديقتها عبر الفيسبوك من دون أن يتمكن أحد من العثور عليها وتحديد مكان إقامتها؟

ومن دون أن نتوقّف طويلًا عند هذه الأسئلة، ومع قليل من التغاضي، ومن التواطؤ مع الكاتبة والاقتناع بما ترتئيه، فقد نجحت هناء عبيد في كتابة رواية جيدة.

(*) قراءة نشرها الروائي الفلسطيني محمود شقير في حسابه الفايسبوكي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها