الجمعة 2024/07/26

آخر تحديث: 14:27 (بيروت)

أشرف العشماوي لـ"المدن": النوفيلا أصعب من الرواية الطويلة بكثير

الجمعة 2024/07/26
أشرف العشماوي لـ"المدن": النوفيلا أصعب من الرواية الطويلة بكثير
لا أكتب رواية سينمائية
increase حجم الخط decrease
بعد 10 روايات طويلة، يفاجئ الروائي المصري أشرف العشماوي، قرّاءه، بثلاث نوفيلات في كتاب واحد، "كابينة لا ترى البحر"، و"مزرعة الخنازير"، و"مواليد حديقة الحيوان". تسير أحداثها في زمن ممتد من السبعينيات حتى أواخر التسعينيات، وتدور جميعها في إطار الجريمة لكنها ليست روايات بوليسية، وإن استعان ببعض تقنياتها. يوظف العشماوي خبراته كقاضٍ، لا في تتبع الجاني، وإنما في البحث عن الدوافع الإنسانية الكامنة وراء كل جريمة/حكاية، كاشفاً في الوقت نفسه عن تحولات سياسية واجتماعية عنيفة عصفت بشخصياته في أزمنة فارقة. هنا يتحدث العشماوي لـ"المدن" عن رواياته بالتفصيل.

- قبل الخوض في التفاصيل، لاحظت أن شخصيات النوفيلات الثلاث وعوالمها، قريبة جداً من رواية "الجمعية السرية للمواطنين"، إلى حد أنني فكرت أنها ربما كانت موجودة فعلاً في التخطيط الأولي ولم تتسع لها اللوحة.. إلى أي حد تصح هذه الرؤية؟

رؤيتك سليمة وحدسك في محله، "مزرعة الخنازير" كانت بالفعل جزءاً طويلاً من رواية "الجمعية السرية للمواطنين" وحذفته قبل النشر، ولو جاءتني فكرة "مواليد حديقة الحيوان" وقت كتابة الجمعية لكنت وضعتها فيها بلا تردد. الشخصيات بطبيعتها قريبة الشبه من أبطال الجمعية السريّة لسبب وحيد أنهم مهمشون مثلهم، عاديون ومدهشون في آن، لكن لوحة "الجمعية السرية للمواطنين" لم تتس لهم، فوجدوا فرصة في كتاب واحد يحكي قصة كل منهم على حدة، ربما حتى "عارف"، بطل "كابينة لا ترى البحر"، يشبه أهل "الجمعية السريّة للمواطنين"، رغم أنه لم يكن موجوداً وقت كتابتها. أظن أن الانشغال بالمهمشين والرغبة في الكتابة عنهم كانت سبباً في اقتراب العوالم من بعضها وكأن الحكاية الأولى لم تنته بعد.

- ثلاث نوفيلات في كتاب واحد، فكرة نادرة في عالمنا العربي وغير مسبوقة بالنسبة إليك. كيف جاءت وهل تخوفت منها؟

شغلتني فكرة النوفيلات منذ عام تقريباً حتى صارت هاجساً مزعجاً لا أستطيع التخلّص منه، كانت لدي أفكار روايات وكلما حاولت رسم إطار لها، كالمعتاد، مثلما أفعل في كل رواياتي، وجدت الإطار صغيراً ويمكنني حكي القصة في صفحات أقل. في البداية ظنّت أنها روايات غير مكتملة، خصوصاً أن فكرة "مزرعة الخنازير" كما قلت مسلوخة من روايتي "الجمعية السرية للمواطنين"، وقتها رأيت أنها تحتل مساحة كبيرة بشخصية فايز حنا، وربما تطغى على بطل العمل معتوق رفاعي، وتغطي على أدوار البقية من الأبطال، فقررت سلخها تماماً ونشر الرواية من دونها. لكن الفكرة، بعد ذلك، بدأت تعود لذهني لكتابتها بصورة مستقلة، وبالفعل اتخذت هذا القرار بعد إلحاح من عقلي الذي دفعني للكتابة، لكني أيضاً توقفت وخفت من فكرة النوفيلا. ثم ظهرت فكرة "مواليد حديقة الحيوان" من لقاء عابر مع صديق لأخي، وبصورة عفوية تماماً ومن طريق المصادفة البحتة، تحولت دفة الحديث إلى مكن الميلاد، فأخبرني أنه مواليد حديقة الحيوان! ورأيت في هاتفه المحمول صورة لشهادة ميلاده بالفعل، فاندهشت. حكى لي أن الأمر كان يضايقه جداً وهو صغير بسبب التنمر.

اختزنت الحكاية، وبدأت في نسج خيوط الخيال حولها، حتى اكتملت في ذهني رواية "مواليد حديقة الحيوان"، لكنها كانت تسعة آلاف كلمة فقط.. نوفيلا صغيرة أيضاً تحمل خصائص الرواية لكنها قصيرة، كبر الهاجس ولم أعرف هل أستمر في الكتابة أم أتوقف، ومضيت في رحلة البحث عن فكرة رواية طويلة كعادتي. فتشت في أوراقي القديمة لأجد فكرة لم تكتمل كنتُ قد بدأت فيها منذ عامين أو ثلاثة، كتبت وقتها لمدة شهر ثم توقفت وهي رواية "الكابينة التي لا ترى البحر" لكني وجدت الفكرة لا تحتمل الرواية الطويلة أيضاً، وربما كان ذلك سبباً للتوقف وقتها، ثم وجدتُ نفسي مشغولاً بفكرة النوفيلات الثلاث للمرة الأولى.

لا أعرف تحديداً ما الذي حدث بعدها، فكل شيء مضى بسلاسة غريبة وكأني صرت مهيئاً تماماً لكتابة ثلاث روايات قصيرة، فكتبت بمتعة جميلة، لكن قبل النشر تخوفتُ لأسباب كثيرة أولها أن الفكرة غير مسبوقة بالنسبة إلي ولقارئي، وثانيها أنها نادرة وغير متعارف عليها في العالم العربي، القماشة العريضة للرواية تناسب الحكي الذي أفضّله، أما النوفيلا فلا تحتمل حكياً زائداً أو خيوطاً جديدة طويلة لا يمكن لمّها بسهولة، قماشة محدودة لا تحتمل الهدر. الأمر أصعب بكثير من الرواية لكن متعة التجربة ومحاولة تقديم شيء جديد للقارئ كانت له الغلبة في النهاية. ومع ذلك ظل الخوف مصاحباً لي حتى اطمأنيت إلى استقبال القراء للعمل، فهذا أكثر ما كان يشغلني بعد النشر.

- بالحديث عن النشر. هل فكرت في نشرها منفصلة؟ أم كان الاتفاق من البداية على جمعها في كتاب واحد؟ ومتى قررت نشرها؟ فمن الملفت أن آخِرها كُتب قبل شهر تقريباً من نشر الكتاب!

بالطبع فكرت في نشر الروايات منفصلة، العام الماضي كان أكثر الأعوام حيرة في مسيرتي الأدبية، وكنت أخطط لنشر "مزرعة الخنازير" أولاً، واستشرت أدباء أثق في رأيهم واقترح أحدهم وهو كاتب عظيم وبارع في كتابة القصص، نشر هذه النوفيلا منفصلة، والحقيقة أنني حتى بداية مايو الماضي أي قبل النشر بشهر، وأثناء المراجعة قبل الأخيرة، كنت ميالاً لهذه الفكرة، لكن آراء أصدقاء آخرين شجعتني على النشر المجمع، أظن أن وجود خيوط شفافة بين الروايات الثلاث ساعد على اتخاذ القرار وترجيح كفة النشر المجمع في النهاية، خيوط الإرث المعنوي المشترك بين الأبطال، الظلم والبؤس والاضطهاد وأيضاً خيط الإنسانية المفتقدة في رحلة الأبطال الثلاثة، وكونهم عاديين شبه مهمشين يحلمون بحياة عادية بلا طموح ومع ذلك يعاقبون على مجرد الأحلام البسيطة التي طافت بخاطرهم. وفي منتصف مايو الماضي اتخذت مع ناشري - الدار المصرية اللبنانية- قرار النشر وكانوا متحمسين جداً للكتاب المجمع وشجعوني على إصداره.

أما بخصوص التاريخ، فهو تاريخ البروفة الأخيرة التي أوقع عليها بموافقتي على الطباعة، وهو التاريخ الذي أضعه عادة في كل رواياتي، تاريخ آخر مراجعة لروايتي كان 29 مايو 2024 وهو ليس تاريخ كتابة آخِر نوفيلا. أكتب في نهاية كل الروايات تاريخ آخر بروفة قبل المطبعة مباشرة، لا يمكنني كتابة تاريخ الانتهاء من الرواية لأنني فعلياً أكتب فيها وأعدل وأحذف حتى اليوم الأخير قبل الطباعة.

- أريد الحديث عن ظروف كتابتها، فرغم اختلاف الموضوعات، هناك "جو عام" أو وحدة موضوع أو "خيوط شفافة" كما تسميها حول قيمة الإنسان ونظرته لغيره ولنفسه، كما أن كل قصة/جريمة يتحملها بطل مختلف في حين ينجو المتسبب أو المجرم الحقيقي غالباً. هناك أيضا تشابه في طريقة الكتابة.. المشاهد والتقطيع وأيضًا العناوين الفرعية التي تشبه الكلمات المتقاطعة. كيف حدث الربط؟ هل كان هذا كله حاضراً في ذهنك من البداية؟

البداية كانت بمزرعة الخنازير، تقريباً كانت مكتوبة ومكتملة لكن بغير ترتيب، لأني أكتب بطريقة غريبة نوعاً ما عن المعتاد، لا أكتب بالترتيب العادي المنطقي كما يصدر الكتاب إنما أكتب فصولاً منفصلة أو مشاهد متفرقة. أحياناً أبدأ بالنهاية، وأحياناً من المنتصف، وقد يكون المفتتح آخر ما أكتبه، أنا هنا أتحدّث عن المسودة الأولى لروايتي، وبعدها أقوم بترتيب المشاهد والفصول وفقاً لبناء الرواية وما أريد كشفه أولاً من أحداثها ثم تكتمل عندي مسودة أولية، وأبدأ في العمل عليها لمدة عام مثلاً، أراجع خلاله الرواية أربع أو خمس مرات، كل مرة مسودة جديدة حتى استقر على النهائية للنشر. في يوليو من العام الماضي كانت مزرعة الخنازير مكتملة، وكنت كتبت الإطار العام لمواليد حديقة الحيوان، وفصل النهاية أيضاً لأنها كانت محيرة نوعاً ما بالنسبة إلي في البداية، هل يخرج البطل للدنيا أم يسجن للأبد؟ ثم عدت لفكرة رواية كابينة لا ترى البحر، من خلال أوراقي القديمة، وهي على ما أتذكر كانت مجرد مفتتح وثلاثة فصول منفصلة كل فصل ألف كلمة تقريباً ولا شيء آخر.

وقتها بدأت أكتب رغم أني كنت مشغولاً ببحث تاريخي لفكرة رواية تاريخية تشغلني منذ عامين ولم أكتبها بعد، لكن مع ذلك كتبت في النوفيلات الثلاث في وقت واحد. كنت أنتقل من واحدة إلى أخرى وأعود للثالثة وهكذا، ووضعت عناوين الفصول كلمات متقاطعة، لكي أشعر أنني أعمل في مشروع واحد، أنا بالمناسبة أحلّ الكلمات المتقاطعة يومياً منذ ثلاثين عاماً وحتى الآن. كانت الفكرة في رواية الكابينة فقط، ثم وجدتها مناسبة للروايات الثلاثة، لكن الحقيقة أني كنتُ ألعب إلى حد كبير، وأخلق رابطاً لنفسي ليسليني ويحفزني قبل اكتشاف الرابط الفني بين الروايات، وكنت مستمتعاً باللعبة للغاية حتى جاءت أحداث غزة فتوقفت مرغماً محبطاً بسبب جلال الحدث وإحساسي بالعجز، وبعدها بأسبوع فزت بجائزة "كتارا"، وشعرت بخوف في اليوم ذاته من أسئلة الصحافة والإعلام بعد التتويج ولبضع ساعات، عن العمل التالي وماذا ستقدم للقارئ.. الخ، يومها قال لي صحافي فرنسي متخصص في الأدب العربي، إن كثيرين قبلي حصلوا على جائزة البوكر أو جائزة كتارا، ومن بعدها أصابتهم لعنة الجوائز ولم يقدموا جديداً مدهشاً للقراء كما كانوا، فتخوفت بصراحة أن ألقى المصير نفسه، وقتها استسلمت للهاجس ثم تجاوزته، لكن لدي تفسير الآن، أن كتابتي لنوع جديد بالنسبة إلي وهو النوفيلات كان السبب أو الشرارة لانطلاق مخاوفي ومحاولتي البحث عن شماعة لعنة الجوائز إذا ما أخفقت، كخط دفاع أخير، أظن أنني كنت أفكر هكذا وقتها، لكني بعد شهر واحد عدت للكتابة، فلا أستطيع تجاوز الأحداث العامة والهم العام والخاص إلا بالكتابة.

عدت لأكتب يومياً كعادتي وبدأت في التركيز أكثر على الرابط بين الروايات، وهو قيمة الإنسان، وأظن أني في الفترة من نوفمبر حتى إبريل أنجزت ثلاث مسودات لأني أعمل يومياً لمدة ثماني ساعات تقريباً كعادتي في كل عمل. وفي المسودة الثالثة كنت حريصاً على تقطيع المشاهد بصورة تدفع الحدث للأمام وتجذب القارئ أكثر، كنت مشغولاً بمفتتح الروايات وختام كل فصل وبدايات الذي يليه وإشراك القارئ معي في مفردات الكلمات المتقاطعة. بالطبع راجعت رسم الشخصيات بدقة لكي أطمئن على وصول صورتها للقارئ، وكنت مهيئاً وقتها لكي يقرأ معي الأصدقاء قبل النشر وهم مجموعة لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة أثق فيهم جداً، لكني لم أكن مستعداً للنشر بعد في هذه المرحلة ولم أتوقعه بهذه السرعة.

من أين استقيت تلك الشخصيات؟ هل من عملك كقاضٍ أم من الغوص المتكرر في التاريخ والذي ظهرت نتائجه في أعمالك السابقة؟

الشخصيات في الروايات الثلاث خيالية بالكامل، لم أر أياً منها من قبل، ولم التق أحدها في حياتي، ولا علاقة لها بملفات القضاء التي باشرتها، لكنها ومضة خيال بحتة، في الحياة هناك بالطبع من باع الخنزير على أنه لحم بقري، لكنه ليس فايز حنا بطل روايتي، وهناك شخص دخل السجن مكان شخص آخر، لكنه ليس بظروف ولا عالم عارف بطل رواية الكابينة التي لا ترى البحر، وحتى إسماعيل الديب بطل مواليد حديقة الحيوان لا يتواجد بصورة حقيقية في الحياة، الأزمة هنا لم تكن إحلال الفقير محل الغني في السجن وانتصار الشر على الخير، لكن الأزمة في نظرة الفقراء إلىأنفسهم وكيف ترسخت الدونية في أذهانهم بسبب طبقية المجتمع وتوحشه. حتى أن الجد، عندما أعاد التاريخ نفسه، اختار الأمر ذاته لحفيده بعدما استقر في وجدانه أنه امتداد له، مجرد حيوان يمكن حبسه لبعض الوقت مقابل كثير من المال، والسجن أفضل من الغربة، والاثنان أفضل من الاغتراب في الوطن.. تلك هي المأساة التي تكررت بصور متباينة في الروايات الثلاث، فايز حنا الذي أراد حياة عادية فمات مرتين، واسماعيل الديب بطل مواليد حديقة الحيوان الذي ارتضى أن يكون حيواناً لبعض الوقت فصار مهاناً كل الوقت، وهكذا.

- هل يمكن القول إن مرحلة السياحة التاريخية انتهت الآن بوصولك لزمن قريب في النوفيلا الأخيرة؟ أم ستعود للتاريخ مجدداً في أعمال مقبلة؟

لا أعرف إجابة لهذا السؤال الآن، لا يمكنني القول إن مرحلة السباحة في التاريخ انتهت بوصولي لزمن قريب في النوفيلات الأخيرة، لأن لدي أفكاراً تعود لفترات تاريخية بعيدة تحتاج لبحث ودراسة حتى أستطيع كتابة رواية عنها، لكن في العموم أنا لا أعود للتاريخ مجاناً ولا أعود للتاريخ بقصدية في الوقت ذاته، الفكرة تجبرني في كل الأحيان على العودة للتاريخ، نحن مجتمع لا يتعلم من الأخطاء ولا يقرأ التاريخ إلا على شكل خبر أو حدوتة، وهذا لا يكفي إطلاقاً لاستيعاب الدرس والتعلم، لا بد من التعمق والفهم لكي نستوعب ما يدور حولنا في حاضرنا ونستشف المستقبل.

- مجاز الحيوانات يتكرر كثيراً في كتابتك ومنذ "زمن الضباع" عملك الثاني. فهل تتعمد هذا أم أنه عمل اللاوعي؟

أنا شغوف بعالم الحيوان بصورة كبيرة وأحب الحيوانات وأربيها في منزلي، وأرى أن عالمها ثريّ للغاية وملهم ودرامي بصورة مدهشة، تكرار الإشارة للحيوانات في رواياتي أظن أنه يعود لقوة اللاوعي، فأنا لا أتعمده في الكتابة لكني أجدني متوجهاً إليه بسلاسة ومنجذباً بسهولة، ربما تصدق هنا مقولة أستاذنا الكبير يحيي حقي، أن اللاوعي لدى الكاتب أكبر بكثير من وعيه.

- هناك من الكتّاب من يزعجه عدم التقاط القارئ للمجازات والمعاني الخفية التي يطرحها في نصه، كيف ترى المسألة؟ ماذا لو توقف القارئ عند الحكاية الظاهرية، هل يرضيك ذلك؟

بصراحة أنا أتضايق جداً من عدم التقاط القارئ للمجاز أو المعنى الخفي، أشعر أن تعبي راح. الكثيرون يتوقفون عند الحكاية الظاهرية وأنا أتحمل جانباً من المسؤولية بالطبع لأني أميل للحكي وانتصر للحكاية في رواياتي، لكن ما بين السطور مهم للغاية، أدرك أن القراء متفاوتون في درجات القراءة وهناك العادي والنوعي، لكن إذا كان سؤالك عن مدى الرضى فأنا لا يرضيني التوقف عند الحكاية، لكني مجبر على احترام القارئ في كل الأحوال.

- الواضح أنك تصالحت مع "تهمة المشهدية" أو الكتابة من أجل السينما، بدليل وضعها في كلمة الغلاف..

تصالحت مع تهمة المشهدية وغيرها من التهم مثل الكتابة من أجل السينما، أو الأكثر مبيعاً، أو أشرف يكتب مجرد حكايات درامية.. الخ هذه التهم التي الصقت بي منذ بدأت النشر، في البداية كنتُ أتضايق جداً وفكرت في التوقف عن الكتابة بسبب الهجوم الذي لا يتوقف ضدي وبعضه ينال من شخصي بعيداً من الكتابة، وغالبيته من كتّاب وأدباء للأسف، وبالطبع أضرتني مهنتي وظلمت جداً بسببها واعتبروني أتيت من خارج الصندوق الأدبي كما قالوا عني وقتها، لكن بعد فوز روايتي "البارمان" بجائزة أفضل رواية عربية في معرض القاهرة الدولي للكتاب، التقيت بالأديب الكبير جمال الغيطاني، وكان رئيساً للجنة التحكيم التي منحتني الجائزة ولم أكن تقدمت لها، والغيطاني هو الذي قام بتفعيل بند استدعاء رواية من خارج النصوص المقدمة واختار روايتي واللجنة أجازتها بثلثي الأصوات، ولم أكن أعرفه قبلها ولم ألتق به بعدها، هي مرة واحدة هنأني بالجائزة فشكوت له الهجوم الذي أتعرض له، فقال لي يومها: أنت كاتب حقيقي والرد منك يكون بالكتابة، أما الانشغال بالرد عليهم ففيه نهايتك.

من يومها، تصالحت مع كل شيء أو بمعنى أدق تجاهلت كل الهجوم، ومن يومها أيضاً لا أرد على أي مخلوق مهما قال أو تجاوز، وكأنه لم يكن، لكن دعني أقُل لك شيئاً مهماً عن المشهدية، أنا تأثرت بالأديب الفرنسي بلزاك في هذا الأمر، وهو أستاذ المدرسة الوصفية والمشهدية، لكن الخلط يحدث لدى البعض بسبب استخدامي لتقنيات السينما في السرد، أنا أقوم بتقطيع المشاهد لكسر الملل واستخدم تقنية أصوات واسترجاع للذاكرة وأكتب مشاهد أقرب إلى "ماستر سيين" في السينما وأميل للوصف. لكني أنا لا أكتب رواية سينمائية على الإطلاق، والرواية الحديثة في رأيي هي مزيج من الفنون، خليط من قصائد وموسيقى ولوحات تشكيلية مرسومة بدقة وفن موزاييك مع سرد متماسك يغوص في نفسية الأبطال، لا حكي خبري سطحي يهتم بالحركة والسلام. الأمر مختلف كذلك بين السيناريو وبين الرواية، وأظن أن غالبية القراء تفهم الفارق الكبير بينهما. ولم تظهر رواية لي بعد على الشاشة فكيف بعد 15 سنة من النشر، اتّهم بأني أكتب للسينما؟!

- قلت في حورانا السابق بعد "الجمعية السرية للمواطنين" أنك ترغب في هدنة طويلة للاستراحة ولتقييم التجربة. لكنك أصدرت عملين بعدها في توقيتات متقاربة، ربما خلال عامين! ما الذي حدث؟

نعم قلت في حوار سابق معك أنني أرغب في هدنة بعد رواية "الجمعية السرية للمواطنين" للاستراحة وتقييم تجربتي، وكنت صادقاً، لكن ما حدث أن بعدها بأقل من شهرين وجدت نفسي مدفوعاً لكتابة رواية "السرعة القصوى صفر" ولم أستطع مقاومة رغبة الكتابة فاستجبت، ومن بعدها شغلتني فكرة النوفيلات المجمعة، لا أعرف لماذا لم ألتزم بما قطعته على نفسي. ربما كان الدافع للكتابة أكبر، لكني الآن أشعر بحاجة أكبر للراحة والتوقّف للتقييم، ربما أكثر من العام 2022، لأن نشر النوفيلات واستقبال القراء لها أربكني نوعاً ما، لم أكن أتوقع كل هذا النجاح وفرحتي به جعلتني متخوفاً في الوقت ذاته من تكرار التجربة مدفوعاً بالحماس فقط، خصوصاً أن لدي فكرة أخرى لقصص طويلة، هذه الحيرة تحتاج وقتاً للتوقف والتدبر وتقييم التجربة بالفعل، أنا أكثر جدية هذه المرة في ضرورة الحصول على استراحة طويلة.

- بالمناسبة قلت أيضاً أن الجوائز بعيدة منك. لكنك فزت مؤخراً بجائزة كتارا وبجائزة معرض القاهرة. ما هو شعورك الآن تجاه مسألة الجوائز؟

يبدو أنك كنت قَدَم خَير عليّ، شعوري تجاه الجوائز لم يتغير، أنا أفرح جداً إذا ما حصلت على جائزة وأشعر أنها تقدير للكاتب معنوياً ومادياً، لكني في الوقت ذاته لا أحزن إطلاقاً في حالة الخسارة ولا أهاجم لجنة تحكيم ولا أقول أي شيء، أنا أكتب للقارئ وأنشغل فقط بالكتابة ولا شيء آخر.

- ما الجديد لديك. ومتى يصدر؟

أترقب صدور ترجمة انكليزية وأخرى إسبانية لرواية "الجمعية السرية للمواطنين"، وقرب نهاية العام تصدر الترجمة الفرنسية لرواية "تذكرة وحيدة للقاهرة"، حالياً أنا في إجازة طويلة، أقرأ نصوصاً لآخرين واستمتع بمشاهدة أفلاماً سينمائية يومياً.. لا أكتب منذ نهاية مايو الماضي، وأحتاج لراحة وتقييم التجربة كما قلت لك وأنا جاد هذه المرة، وربما يستغرق الأمر بعض الوقت لكن في جعبتي أفكاراً لقصص وفكرة لرواية ولم أستقر بعد على النص الذي سأكتبه. في العادة أنتظر حتى تتغلب فكرة على أخرى، بمعنى أن تتملك الفكرة مني ومن تفكيري طوال الوقت بحيث أرى شخوصها وعوالمها طوال اليوم، ووقتها أبدأ في الكتابة، لكني لا أظن أني سأفعل شيئاً قبل نهاية هذا العام على الأقل.

أشرف العشماوي:
قاضٍ وروائي مصري، له 11 رواية وكتاب توثيقي عن استعادة الآثار المصرية. فاز بجوائز عديدة، آخرها جائزة كتارا 2023 عن روايته "الجمعية السرية للمواطنين".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها