بالأمس عادت الغيوم الرمادية لسماء بيروت. إنها الحرب. مجدداً. العدو نفسه، الأهداف نفسها، الأسباب نفسها، وإن ادعوا غير ذلك، العجز فقط تضاعف، والغضب القديم أيضاً. في هذه العلاقة المتشابكة بين الحاضر والماضي، ماذا علينا أن نفعل؟ هل نعتاد، نتبلّد، أم نصوغ مفاهيم جديدة كي نستطيع أن نسمى الأشياء بأسمائها، كما قال إلياس خوري الذي ودّعنا منذ أيام؟ فللغبار الذي وصل بيروت بالأمس، مسار ممتد، والعجز العربي عن كبحه علامة على "عصر انحطاط جديد". والنكبة، بحسب إلياس، ليست ماضياً نتذكره، وإنما هي الكلمة التي تلخص الحياة تحت الاحتلال في المجمل، سواء في مخيمات اللاجئين أو في فلسطين أو في الشتات العربي المجاور أيضاً... "عندما نتحدث عن النكبة فإننا لا نتذكر حدثاً جرى وانتهى في سنة 1948، لكننا نشير إلى مسار طويل بدأ في تلك السنة، وامتد بأشكال متنوعة ومتعرجة حتى اليوم".
النكبة هي الآن أيضاً، مستمرة بلا نهاية واضحة في الأفق. والوجع الجديد لا يطرد القديم مع الأسف، بل يؤكده ويضاعفه، وهو ما لمسته من حديثي المستمر مع المثقفين المصريين منذ الأمس، فلم أسمع سوى كلمات الغضب الممزوجة بمرارة اليأس والإحباط وقلة الحيلة. يقول الروائي أشرف العشماوي: "أشعر بعجز شديد وإحباط يقارب اليأس.. لبنان الآن، وغداً مَن؟ تم تجريفنا وتحولنا إلى أشباه آدميين خالين من العروبة والإنسانية والنخوة. تربينا على الشجب والإدانة، وسهلوا مهمتنا بوسائل الاتصال الحديثة لنفرغ فيها فضلات عقولنا ونسكت ضمائرنا بعلامات الإعجاب. أنا يائس ومحبط وفقدت القدرة على الكتابة عن لبنان، ومن قبله غزة. أجلس أمام شاشات التلفزيون أتابع الأخبار من قناة لأخرى، علّني أسمع خبراً يعيد لي الأمل، لكن كل هذا الضجيج من حولي لا يخرج إلا من أوانٍ فارغة".
قبل حديثنا بلحظات كان الشاعر والمترجم عبد الرحيم يوسف، يقرأ إشعاراً من جريدة "نيويورك تايمز" ترجمته: أكثر من 270 شخصًا قُتلوا، وأكثر من ألف أصيبوا في أعنف يوم من الهجمات الإسرائيلية على لبنان منذ العام 2006. إشعار متأخر كالعادة، والرقم أقل مما هو في الواقع. يذكّرني يوسف بدوره بما قرأه في جريدة "أخبار الأدب"، ويقصد مقدّمة إلياس خوري عن النكبة المستمرة، ويقول إنه لا يجد خيراً من فكرته القائلة بأن النكبة لم تكن حدثاً تاريخيًا انتهى في 1948، بل كان مساراً مستمراً فيه لحظات مفصلية مثل 1948، 1967، 1973، 1982، 2006، 2023: "منذ السابع من أكتوبر الماضي، وإذ نقترب من مدة عام كامل، نحن في حالة نشاط لهذا الفيروس النكبوي، إن جاز التعبير. إسرائيل تمارس أقصى نموذج للبلطجة الإنسانية والسياسية والعسكرية منذ 11 بلا انقطاع". يتساءل: "هل ما يحدث في بيروت اليوم والأمس وقبل أسبوع، ليس جزءاً مما حدث ويحدث في غزة والضفة منذ شهور وسنين؟ هل ضرب بيروت اليوم لا يشبه ضربها في 2006 واجتياحها في 1982؟". ولا ينتظر إجابة لأسئلته فتوصيف اللحظة يكفي: إنها لحظة عجز وإذلال مستمرة عربياً، وبلطجة ووحشية وغطرسة مستمرة إسرائيلياً.
الروائي أحمد مجدي همام يرى أن الموضوع تجاوز كل الحدود، والعالم عاجز أمام تغوّل إسرائيل وإجرامها. يقول إن لبنان هو أكثر بلد عربي تواجَد فيه بعد مصر، وله ذكريات وأيام وأصدقاء وأحباء في كل أرجائه، ونشر فيه بعض كتبه أيضاً: "لبنان يعني لي الكثير، وكنت دائماً ومازلت أقول إن بيروت هي واحدة من عواصم وحواضر الثقافة العربية الراسخة. لي أصدقاء في بيروت، ولي أصدقاء في الجنوب، أتساءل أحياناً كلما استجد خبر عن قصف أو غارة، أتساءل عن مصائرهم وسلامتهم وأطفالهم". لا يخفي همام ألمه ولا ينكر عجزه: "أنا متألم، وأشعر بعجز يشل تفكيري. أشعر أن المسألة شخصية وأن هذه الضربات لا تقتل أصحابي فحسب، بل تهين كرامتي بشكل شخصي... كأنها صفعات متتالية وسريعة على وجهي أنا تحديداً". ولا يعرف كيف يواجهها أو ماذا يقول وكيف يتصرف، فينتهي به المطاف إلى أن يرفع وجهه للسماء ويسأل الله أن يتدخل، "لأن ما يحدث أمام أبصار العالم، منذ العدوان على غزة، مروراً بالمناوشات مع لبنان ثم حرب البايجر ثم قصف المدن اللبنانية، كل هذه الأشياء تقول إن لجام التجبر الإسرائيلي أفلت وأن هناك من يغذيه ويمنحه الضوء الأخضر. الموضوع حزين لدرجة الموت قهراً. وأنا أتمنى أن تنجح الوساطات الدولية، وجهود مصر، في وقف هذه المهزلة الإنسانية التي لا يدفع أحد ثمنها سوى الشعبين الفلسطيني واللبناني".
في الأسابيع الأولى للعدوان الإسرائيلي على فلسطين، أعاد القاص والروائي أحمد عبد المنعم رمضان، قراءة رواية "بيروت بيروت" لصنع الله إبراهيم، و"الحب في المنفى" لبهاء طاهر، وقبل يومين أو ثلاثة ومع تزايد التوتر في الجنوب، استعاد الجزء الخاص بغزو لبنان في الرواية الأخيرة: "لا شيء غير الدبابات والقنابل تطير وتدك، والطائرات تقصف"، ويتذكر ما قرأه ذات مرة عن أن التظاهرة الكبيرة الوحيدة التي قامت في الوطن العربي أثناء غزو 1982 كانت احتفالاً بفوز الجزائر على ألمانيا في كأس العالم!.. "اختبرت تلك المشاعر التي عصفت بي اليوم، مراتٍ عديدة من قبل، لكنها ما زالت بالقسوة نفسها، لم يصبني الاعتياد رغم التكرار، أذكر كل الأيام الدموية التي مرت على مدار العام المنصرم، من منا كان يتوقع في أسوأ كوابيسه أن تستمر المجازر عاماً كاملاً؟ أذكر يوم الغزو الأميركي للعراق، القهر نفسه وقلة الحيلة والغضب المكتوم في كل مرة، كل انفجار يصاحبه آخر داخل صدري، تتردد في عقلي أغنية لفريق إسكندريلا ومن كلمات أمين حداد: يـُحكى أنّ.. جيلا ورا جيل، سرقوا فلسطين إسرائيل، يـُحكى أنّ، يا أحفاد، أميركا دخلت بغداد، راح يدخلوا بغداد العصر، والمغرب راح يدخلوا مصر... لكنى أذكر نفسي بالعام 2006، أمنّي نفسي أو أخدعها، لا أعلم، أدعو وأتابع وأنتظر، وأشعر من جديد بقلة الحيلة تحاصرني".
في مثل هذه الأيام من العام الماضي، زار الكاتب والباحث كريم جمال، لبنان للمرة الأولى، يقول: "جبت شريطه الساحلي من أعلاه إلى أسفله، بلدات الشمال وقرى الجنوب، تسكعت للمرة الأولى في شوارع بيروت، دخلت مكتباتها، وسهرت على أبوابها". بقي قرابة الأسبوعين ضائعًا في المدينة، يأسره الجبل والناس والطعام، والصخرة العملاقة الرابضة في مواجهة البحر وهي تجمع قلوب العاشقين ونهايات اليائسين من الحياة: "كانت لبيروت صورة نائمة في خيالي، لمدينة جمعت السحر والجمال، مدينة للفن والألوان، تماماً مثل صباح التي تستقبلك ببسمتها الغامرة في مدخل شارع الحمرا، سألت الجميع عن "ميس الريم" و"جسر اللوزية" و"جبال الصوان" فلم أجد جواباً"، لكنه وجد لبناناً آخر، شعب يعيش تحت ظروف صعبة، عملة منهارة، وتفكك سياسي، ولا أمل في الأفق لشيء يعيد لبنان إلى عصره المفقود، لكن بقي شيء يميز ذلك البلد، شيء أخير يجمع أبناءه ويمنحهم القدرة على البقاء والرغبة في الحياة، كما يقول، بقي داخلهم حب لبنان وما فيه من تناقضات، شعورهم بأنهم لا يستحقون تلك النخبة الحاكمة ولا تلك الصراعات، بقيت بسمتهم رغم كل صعب، تجمعهم وتوحدهم بعدما فرّقتهم الحروب والمذاهب. يقول: "بعد عودتي إلى الإسكندرية، ظللت أياماً أبحث عن بيروت في امتداد البحر، شعرت وكأن كلمات توفيق بركات كانت في محلها: جينا نبيع كبوش التوت/ ضيعنا القلب ببيروت.. لم تكذب الكلمات، فقد ضاع القلب هناك".
لكن بيروت الآن غير التي تلك تركها كريم منذ عام: "بيروت الآن تبكي ضاحيتها وأقضية الجنوب، تبكي القرى المهجرة، والاغتيالات الدائمة، صخب الغناء استُبدل بصوت خرق جدار الصوت والانفجارات، بلد العيد صار حزيناً، وملأت سماءه الغربان السّود، والصواريخ الحارقة التي لا تذر شيئاً ولا تعرف حُرمة". لكنه لا يستسلم لليأس، يبحث عن أمل، تعزية: "لا شيء يعزي في هذه المعركة إلا صمود لبنان، بسالته الدائمة ونجاته في كل عثرات تاريخه القريب، حروبه التي خرج منها مثل صخرة جبل عامل صامداً متجدداً محباً للحياة". في النهاية، يؤمن كريم بأن معركة لبنان تلك هي "معركتنا الأخيرة والباقية مع ذلك الكيان المتوحش، لبنان قُدّر له أن يكون سهمنا وقوسنا الأخير، وقصتنا الحزينة التي لا تنتهي".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها