السبت 2024/07/20

آخر تحديث: 12:34 (بيروت)

عبد الله الحسيني: سعيد باقتران "باقي الوشم" بغسان كنفاني

السبت 2024/07/20
عبد الله الحسيني: سعيد باقتران "باقي الوشم" بغسان كنفاني
إذا فكرت في القارئ أثناء الكتابة لن أنجز شيئًا.
increase حجم الخط decrease
فازت رواية "باقي الوشم"، للكاتب الكويتي عبد الله الحسيني، بجائزة غسان كنفاني للرواية العربية في دورتها الثالثة 2024. وجاء في حيثيات فوزها إنها تتسم بالسبك الجيد المتماسك، وبقدرة مميزة لروائي شاب، ما زال في الرابعة والعشرين من عمره، إذ "أبدع في رسم الشخصيات وبنائها بناء متيناً، يتناغم مع الزمان والمكان، ما ذكّرنا بأديبنا الكبير غسان كنفاني، الذي غادرنا في سن مبكرة".

فازت "باقي الوشم" بالجائزة التي تناسبها، فعبد الله يقترب كثيراً من إحدى الأفكار المركزية والمحورية في أعمال كنفاني والتي يلخصها في جملته الشهيرة: "إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية". جملة تنطبق تماماً على شخصيات رواية الحسيني وعالمها، وربما تكفي وحدها دليلاً على استحقاق "باقي الوشم" للجائزة. فحمضة السحاب مثلاً أكبر بكثير من مجرد شخصية في رواية، حمضة التي ودعت خيامها ومضارب أهلها وشدت الرحال إلى مدينة لا تشبه المدن، وعاشت منكوبة بالبرد كنبتة غريبة في غير تربتها انتظاراً لربيع لم يأت، ستعيش حتى في غيابها كوشم لا يمكن محوه للاغتراب الحقيقي داخل الوطن. وشخصيات الرواية بالمجمل يمكن اعتبارها تلخيصاً موجزاً وعلامة مميزة على تلك القضية الشائكة، قضية انعدام الجنسية أو "البدون" رغم كثرة ما كتب عنها.

كاللاجئين في أوطانهم، نتابع تغريبة حمضة وعائلتها ومعاناتهم في الحصول على أبسط الحقوق، وحيلهم للزواج أو توسعة منزل أو حتى الذهاب إلى مدرسة طبيعية أو زيارة عيادة طبيب أو الحصول على وظيفة أو السحب من حساب مصرفي. شخصيات حقيقية من لحم ودم تتفرع وتتوزع لتتجاوز حدودها الجغرافية إلى ما هو أبعد وأكثر عمقاً؛ المهمشون في ديارهم، الباحثون عن أنفسهم في عالم يلفظهم، هؤلاء الذين يعيشون دوماً حياة معلقة على الحافة في انتظار ما لا يجيء... هنا يتحدث عبد الله لـ"المدن" تفصيلياً عن الرواية والكتابة والجائزة:

- لنبدأ من الحدث الأبرز.. فزت قبل أيام بجائزة غسان كنفاني للرواية العربية. كيف تلقيت الخبر وما الذي يعنيه لك ارتباط اسمك بهذا الاسم الكبير؟ وبشكل عام ما الذي تعنيه لك الجوائز خصوصاً أن روايتك الأولى فازت أيضا بجائزة؟

* سعدت. ظننت، ولا أدري لمَ، أن "باقي الوشم" ستكتفي ببلوغ اللائحة الطويلة. وقلت، وقتها، إنني سأسعد إذا ما اقترنت هذه الرواية تحديدًا باسم غسان كنفاني لسبب واحد: كانت شخصيات الرواية مقاوِمة، تقاوم عجزها وقهرها وحرمانها وتاريخاً أثقلَ منها، وفي ذلك جزء شبيه -كما أحب أن أتوهم- بشخصيات غسان كنفاني، وهذا ما حدث أخيرًا.

ثمة جوائز تعيد إحياء سوق الكتاب من جديد ولو لبعض الوقت، وجوائز أخرى الغرض منها ما تمنحه من مبلغ مادي، وجوائز تمنح اعترافًا للكاتب في بدايته. النوع الأخير هو ما ابتغيته. جائزة "ليلى العثمان" منحتني اعترافاً في الوسط الأدبي الكويتي، وجعلتني أصدّق بأنني كاتب أخيراً. أظن هذا ما حدث في جائزة غسان كنفاني أيضًا. لكنّ الجائزة ليست معيارًا لجودة النصّ، إنما هي وجهة نظر لجنة التحكيم وقرارها. وفي النهاية مطمح الكاتب أن يُقرأ نصه، وهذا ما أريد للجائزة، أي جائزة، أن تفعله.

نشرتَ أول أعمالك في عمر الـ17 عاماً، وهو عمر مبكر جداً.. كيف اتخذت قرار النشر؟ وما الذي سبقه.. بشكل أوضح متى بدأت علاقتك بالكتابة الإبداعية؟ أريد التحدث عن الفترة السابقة للكتابة، ما القراءات التي شكلت وعيك وأين موقعها منك الآن؟

* حين أعيد تقييم سنواتي الأربع والعشرين أكتشف أنها تتمحور دائمًا حول الكتابة. لا أعرف متى بدأت الكتابة فعلاً، لكنّي أذكر أنني كنت، في صغري، أطمح إلى أن أكون ممثلاً، وكنت أؤلف مشاهدَ في رأسي، قبل معرفتي بأن ما كنت أفعله اسمه (تأليف) وليس تمثيلاً. هكذا اكتشفت أنني أريد الكتابة. قرأت سيناريوهات أعمال تلفزيونية وسينمائية كثيرة في تلك الفترة، وجربت كتابة مثلها، كما حاولت كتابة قصص قصيرة وروايات وقصائد. حدث لي ذلك في سنّ الثانية عشرة كما أتذكر. كنت مهووسًا بالأمر. أفعله بعناد وسذاجة وطفولية. سخّرت نفسي لأجل تلك الفكرة، حتى أنني لم أتعلم فعل شيء آخر، حتى اللحظة، بقدر تعلمي للكتابة.

بعد عديدٍ من المحاولات كتبت "لو تغمض عينيك". كانت تجربة عبثية. لا أدري كيف وجدتني أنتهي منها. لكني فعلتها. أنجزت رواية كاملة. وإن شئتَ الصراحة كان جزء مني يفكر بتلقي المديح عليها. وحدث ما تمنيته، بفضل أنني كنت كاتبًا دون العشرين، وأسعدني الأمر وقتها (حتى وأنا أفكّر بأن نصّي لم يكن، في الغالب، يناقش بجدية)، لكني قلت لنفسي إنني لن أبقى دون العشرين دومًا، ولن يصفق لي الجميع دائمًا، وليس هذا ما أريده من الكتابة أصلاً.

وقبل "لو تغمض عينيك" قرأت كثيرًا وإن بشكل عشوائي. لكن ليس أكثر مما قرأته بعدها. ولو عاد بيَّ الزمن الى الوراء قليلاً لعوّدت نفسي على القراءة خارج إطار الرواية أكثر، والقراءة وفق منهج ما، وليس قراءات عشوائية أحيانًا تأتي ثمارها وأحيانًا كثيرة لا. لكني لست نادمًا على ذلك. أؤمن دائمًا بأن حتى الكتب التي نسينا أننا قرأناها هي موجودة في مكانٍ ما فينا، مدفونة في اللاوعي، تظهر حتمًا على شكل فكرة نظنها أصيلة، تبرز فجأة في حوارٍ ما، أو في وجهة نظر نتبناها، أو نعارضها، وننسى مصدرها. هي موجودة دائمًا.

- خمس سنوات أو ربما أقل تفصل بين "لو تغمض عينيك" و"باقي الوشم". ويمكن القول بصراحة إن الرواية الثانية أكثر نضجاً بكثير. ما الذي حدث خلال هذه الفترة؟ في السياق نفسه، لو لم تكن الرواية الأولى صدرت فعلاً، هل كنت لتجري عليها تعديلات جوهرية الآن؟ لو واتتك الفرصة للتغيير ما الذي تغيره؟

* كانت الرواية الأولى ضرورة لي، مقياسًا استطعت أن أنظر بعده إلى فنّ الرواية وأدواتها بوعي. بعد صدورها قرأت أكثر، حضرت ورش كتابة أكثر، وصرت أنظر إلى العالم كله، وبشكل جنوني أحيانًا، كما لو كان نصًا روائيًا. الموهبة وحدها ليست كافية، قلت في نفسي منتبهًا إلى أهمية الصنعة.

بعد صدور "لو تغمض عينيك" فكرت في إعادة طباعتها وتعديلها. سرعان ما تخليت عن الفكرة. إنها تجربة وانتهت، قلت في نفسي. تجربة علمتني الكثير، وليست وحدها ما علمني: في بداية العام 2019، كتبت رواية قصيرة. كنت وقتها مختالاً بنفسي، بأدواتي ولغتي. كتبتها بشكل عاجل. عرضتها على الأصدقاء وكلهم أجمعوا بشأنها على رأي واحد: هذه رواية مكانها سلة القمامة.

كانت تجربة محبطة وصادمة. لم أكن أعرف ما ينقصني، رغم أنه كان واضحًا أمامي: الموضوع والصدق. كلاهما كنت أفتقده. كان ذلك أحد الدروس العظيمة التي لا أنساها، وأذكّر نفسي بها كلما فكرت، ولو للحظة، في أن أعجب بنفسي. إذا لم يكن لديّ ما أقوله فلا داعي للكتابة. وقد كان لدي ما أردت قوله، ولدي أسئلتي ومشاغلي، لكني تخليت عنها لأجل كتابة رواية أريد الثناء على أدواتها ولغتها، فحدث ما حدث.

متى بدأت كتابة "باقي الوشم"، ومتى رأيت أنها باتت صالحة للنشر؟ هل كانت بشكلها الحالي منذ المسودة الأولى؟ أحب أن أعرف تطوراتها إن كان هذا ممكناً... أتصور أن عنوانها كان مختلفا أيضاً..

* بدأت كتابتها في أواخر 2019. تجاوزت الأربع مسودات على امتداد ثلاث سنوات تقريبًا. كانت أولاً بعنوان: "تقرير عاجل عن حمضة السَّحّاب" إذ كنت أزمع كتابتها على هيئة تقرير بلغة باردة ومراقِبة لحياة حمضة. فشلت في ذلك.. المسودة الثانية حملت عنوان: "صورة جماعية مع حمضة السحاب". بدت مقبولة لي. قرأها الأصدقاء وأبدوا ملاحظاتهم. في الثالثة صار عنوانها: "لو أنَّ حمضة السحاب رأت الربيع". تحولت إلى رواية تشارف على 60 ألف كلمة. قرأها الأصدقاء. رأوها مترهلة. فضّل بعضهم المسودة السابقة عليها. وبين هذه المسودات كنت أكتب وأمحوا كثيرًا، حتى ظننت أنني لن أنتهي منها أبدًا. يئست تمامًا. كنت أتركها فترة طويلة وأعود إليها. بعدها، قررت أن أكتب مسودة رابعة وأخيرة، بالعنوان ذاته: "لو أن.."، وانتابتني رغبة تدميرية، نبعت عن يأسي ذاك، بحذف كل ما ليس ضروريًا، كل جملة لا تؤدي إلى أخرى، وكل حدث لا يفضي إلى شيء، حتى ولو صار النص صفحة واحدة. وهكذا فعلت، وأزلتُ حتى فقراتٍ ومشاهد ما زلت أحبّها وأتذكرها. وحين انتهيت منها دفعت بها إلى الناشر سريعًا، ولم أكن متأكدًا مما فعلت.

لكن، في الجانب الآخر، ثمة خوف كان يكبر: لقد وصلت بالرواية إلى السنة الثالثة في كتابتها. أوشكت على التخرج في الجامعة. وبين مسودة وأخرى كنت أتوقف طويلاً عن الانغماس في عالم الرواية. وقراءاتي بدأت تتسع. صحيح أن ثمّة روايات كثيرة كُتبت في فترات أطول من التي قضيتها، لكني اكتشفت وأنا أمضي إلى آخر مسودة أنني بدأت أفقد اتصالي مع بعض الشخصيات، والأدوات الفنية، بل واللغة نفسها. حتى أنني نسيت بعض المعلومات الضرورية عن شخصيةٍ ما وأنا أكتبها. وأكثر ما أخافني أن ثمة موقفًا حين أعدت كتابته لم يعد يُحدث أثرًا في داخلي كما في أول المرات. خفت أن يفقد النص طزاجته، وأن يموت في الدرج، لفرط بحثي عن الكمال..

هكذا دفعت بها إلى النشر. اختار لها الناشر الصديق محمد العتابي عنوان "باقي الوشم". ارتأى، وفقًا لحضور الوشم في النصّ ودلالته على امتداد الرواية بما يعنيه من محو بقاء، على أكثر من مستوى، أن يكون عنوانها كذلك، وسرعان ما وافقته على اقتراحه، وإن ما زلت أتمنى أن يكون عنوانها: "لو أنّ حمضة السَّحّاب رأت الربيع".

- مرت أحداث كثيرة خلال تلك الفترة التي كتبت فيها الرواية، وربما كانت مغرية للتعامل الروائي، أزمة كورونا مثلاً. كيف حافظت على خيط السرد وكيف تعاملت مع تلك الفترة الصعبة بشكل عام؟

* كان الزمن السردي في الرواية: صيف 2019. حين جاءت أزمة كورونا كانت الشخصيات ما زالت تعيش في صيف العام 2019. لا أذكر أنني انجرفت بالتفكير لتضمين كورونا في النصّ. ربما فكّرت، لا أتذكر. لكني لا أفضّل الكتابة عن حدث كبير ما زال جاريًا، إذ لا أضمن السيطرة على انفعال اللغة أو أخاف قصور رؤيتي عنه. أحب أن أكتب عن زمن مُنقضٍ ولو بأشهر.

- هناك أكثر من خيط يربط "لو تغمض عينيك" و"باقي الوشم"، ولا أقصد فقط القضية المركزية -قضية البدون- لكن حتى الفضاء المكاني وبعض الشخصيات. لدرجة أنني أبالغ وأفكر أحياناً في أنك تعيد كتابة الرواية الأولى بشكل جديد.. إلى أي حد تصح هذه الرؤية؟

* في "لو تغمض عينيك" تحضر شخصيات البدون في الجزء الأخير من الرواية. كانت شخصيات ثانوية في القصّة. في "باقي الوشم" كبُر هذا الجزء وصار رواية كاملة. وثمّة خيط حكاية في "باقي الوشم" استخرجته وبنيت عليه رواية كتبت مسودتها الأولى قبل أشهر. لم أفعل ذلك بوعي، إنما طرأ لي الآن وأنا أفكر في الإجابة. يذكّرني هذا بمقولة الكاتب الفرنسي باتريك موديانو: "أدركت أنني أكتب الكتاب نفسه في كل مرة تقريبًا. كل رواية من رواياتي تحمل عنوانًا مختلفًا، لكن بالإمكان حذف العناوين لتحصل في النهاية على كتاب واحد".

يقول الكاتب العراقي عبدالجبار الرفاعي: "كل كاتب يكتب كتابًا أساسيًا واحدًا، ما قبله تمارين وما بعده تنويعات". كم تبدو لي مقولته حقيقية. أظنّ أسئلتنا ومشاغلنا نفسها تطاردنا في كلّ رواية، ومع كلّ رواية جديدة نرى وجهًا آخر منها. أو على الأقل هذا ما أؤمن به الآن. يبقى اللعب في معمار الرواية وأدواتها الفنية بما يتناسب مع إطار الحكاية وما تريد أن تقوله.

- في الحديث عن الموضوعات الروائية، هناك جدل قديم لا ينتهي حول ما يسمى بـ"القضايا الكبرى" مقابل الحكاية الذاتية أو الشخصية. أعمالك تقول إنك تنحاز إلى تناول القضايا عبر الحكاية الشخصية إن صح التعبير.. كيف ترى المسألة؟ وهل تكتب من أجل تبني قضية بعينها؟

* مرّة قرأت مقالاً، صرت أحفظه كاملاً، للكاتب الكبير إبراهيم أصلان. قال فيه إن القصص المعنية بصغائر الأمور ليست بمنأى عن الأحداث الكبيرة. تلك الأخيرة كبيرةٌ لأنها تلون المزاج العام الذي يعيش فيه الناس، وبالتالي تؤثر في تفاصيلهم وطبيعة علاقاتهم. والسعي فنيًا للتعبير عن ذلك هي المنطقة التي تتحرك فيها الروايات والقصص.

في "باقي الوشم" كان نثار التفاصيل اليومية، التي تبدو من بعيدٍ غارقة في العادية، يختزل في طيّاته تاريخاً من الإقصاء والتهميش الذي تتعرض له هذه العائلة، وتعبّر عن القهر والحرمان، وكذلك كيف تقاوِم هذه العائلة وضعها يوماً بيوم. عبر هذه التفاصيل الصغيرة أنت ترى ما الذي يعنيه أن تكون عائلة "حمضة السحاب" عديمة الجنسية.

- للمرأة حضور قوى ومركزي في أعمالك. يمكن القول إنها بطلة العملين تقريباً، حضور الجدة بالتحديد كبير ومحوري ربما بشكل أكبر من الأم أو أي شخصية أخرى..

* صحيح. في الروايتين كان حضور الجدة مركزيًا. في الأصل حضور الجدة في حياتي طاغٍ عليَّ أصلا، فربما انعكس ذلك في ما أكتبه. كبرت مع جدتين قويتين. كلٌّ منهما قادمة من خلفية اجتماعية وثقافية تختلف عن الأخرى. لكن على اختلاف السياقات كانتا قويتين، ومرَّتا بالتوازي مع تحولات في التاريخ الاجتماعي والثقافي للكويت من دون أن تعيا ذلك. وأذكر أن هذا الموضوع شغلني طويلاً. صرت مهووسًا بتتبع كل أثر لهما، كل حكاية، كل تفصيلة تقع في يدي، تفصيلة صغيرة قد تقول شيئًا كبيرًا هما لا تدريان عنه. وحتى الآن أزعم بأنَّهما تركتا لديَّ حكاياتٍ ما شفيتُ منها بعد.

- "حمضة" من الشخصيات التي لا يمكن نسيانها بسهولة، و"محمد" كذلك. من أين تستقي شخصيات أعمالك؟ وبما أن الحركة في المدينة جزء أساسي في كتابتك فعلى أي أساس تختار الفضاء المكاني لها؟

* هي شخصيات متخيَّلة. جزء كبير منها يقوم على أساسات حقيقية. أمزج بعضها ببعضٍ. مثلاً حمضة السَّحّاب هي مزيجٌ من جدتي بعدما وضعتها في سياقٍ متخيَّل، ورفيقتها. محمد كذلك كان جزء منه متخيّلاً، مع جزء من شخصٍ أعرفه أو أدّعي معرفته. كلّ الشخوص في الرواية يتقاطعون مع شخصياتٍ حقيقية، بعضها منّي والبعض الآخر من أقارب ومعارف.

كنت أسعى إلى شخوص حقيقية. تراها وتسمع أصواتها وتتعرّف إلى هيئاتها. توجست من أن تنسيني القضية التي تؤطر النصّ، بأن هذه رواية، وفي الرواية شخوصٌ من لحم ودم، لهم حياتهم، وتحولاتهم، ووضعهم كعديمي جنسية لم يبدأ منذ الصفحة الأولى، بل إنهم هكذا منذ جيل الجدّة والجدّة. ينبغي أن يتصرفوا، ويعيشوا، بناءً على هذه الحقيقة القديمة. هذا ما يجب أن أكون أمينًا معه في النص.

المكان في الرواية ليس مجرد حضور فيزيائي أو مسرح للأحداث. المكان فاعلٌ في الرواية، وشريكٌ رئيسي في الأحداث. إنه يصنع الشخوص بقدر ما يصنعونه. ويصير وجود المكان في النصِّ أكثر حساسية إذا ما كان يرفضُ شخوصه.

- لماذا اخترتَ "الهوامش" عنواناً للفصلين الثاني والرابع؟ وما فيهما من تفاصيل عن "حمضة" ما يؤكد أنهما من عمق المتن نفسه..

* في الرواية ثلاثة أجزاء. الجزء الأول جاء بعنوان "قران حادي بردٍ بادي"، كان فيه فصلان بينهما هامش. الجزء الثاني عنوانه "قران تاسع بردٍ لاسع" كان فيه فصلان بينهما هامش كذلك. والجزء الثالث "قران سابع مجيع وشابع" جاء بفصل يتيم. كان الهامش خروجًا متعمدًا عن نبرة الرواية. وإذا لاحظتَ فإن الهامش الأول هو متن الرواية أساسًا، إذ فيه ننظر إلى إثباتات "حمضة" الورقية، الإثباتات التي تؤكد "هويتها"، لكني أزحته إلى الهامش مقابل أن تكون هويتها غير الورقية هي المتن. في الهامش الثاني ننتقل إلى بيتٍ صار أصحابُه، وهم أقاربُ خليفة عجيل (ابن حمضة السَّحّاب)، من متن المجتمع، لكني أزحتهم إلى الهامش. حسنًا، تستطيع القول بأنني قلبت الأدوار في الهامشين، مقابل إعطاء البطولة لعائلة حمضة السحاب وابنها خليفة عجيل. كأن الأمر انتصاراً لهم كما رأيته وقت الكتابة.

لكن في النسخة الإلكترونية، المنشورة في موقع "أبجد"، حدث خطأ في التنضيد، وجعل ترتيب الفصول ليس بذلك الوضوح التي عليه في النسخة الورقية، إذ الفصول غير مرقمة. ربما هذا الخطأ أعطى قراءة وتأويلاً مختلفين وربما لا.

مَن أول مَن يقرأ مسودات أعمالك؟ وكيف تتقبل التعديلات ووجهات النظر؟

* أصدقائي. في "باقي الوشم" سلّمت المسودة لتسعة أشخاص أثق في آرائهم؛ أصدقاء وأساتذة روائيين وشعراء وقراء عاديين. كنت متخوفًا من الشخوص، من اللغة، والسرد. استمعت إلى اقتراحات جوهرية وملاحظات جذرية كنت غافلاً عنها. نسفت مسودة بسبب آراء سمعتها عنها. وهكذا أفعل مع كل ما أكتبه. لا أتعامل مع النص بقدسية. أتركه بعد كتابته فترة قد تطول. أتجرّد منه حتى يبدو بعيد الصلة بي. وبالطبع ثمة ملاحظات تؤخذ وأخرى تُترك، ولا أعرف كيف أقرّر ذلك. أترك السلطة التقديرية في النهاية لإحساسي بالصواب.

متى تفكر في القارئ. وهل تسعى لتطوير علاقتك معه؟ أم تفضل الاحتفاظ بمسافة خصوصاً بعد توغل السوشيال ميديا في هذا الأمر؟ بشكل عام هل تتابع ردود الأفعال حول أعمالك؟ وما معايير النجاح بالنسبة إليك؟

* إذا فكرت في القارئ أثناء الكتابة، لن أنجز شيئًا. هو حاضر لكني أحاول إزاحته حتى لا أحصر نفسي في توقعات أتوهمها عنه، كي لا أظل أكتب ما أظنه في دائرة الارتياح وما أظن أن القارئ سيحبه ويتوقعه مني لاحقًا. أي كي لا أكرر نفسي. المراهنة على مزاج القارئ أمر لا ينطوي على حصافة. أكتب ما تعرفه وتصدّقه، هكذا أقول لنفسي، ليصدّقك القارئ.

يحضر القارئ بعد نشر الرواية وترقبي لآرائه وملاحظاته. في الشهر الأول بعد صدور "باقي الوشم" كنت أدخل، صبحًا وليلاً، إلى صفحة الكتاب في goodreads. أقرأ الملاحظات على نحو محموم. وأظن ذلك أمرًا طبيعيًا بما أنك انتهيت للتو من نص عشت معه فترة طويلة. تسعدني القراءات، والملاحظات الذكية، وتنبهني بعض الآراء إلى زوايا في النصّ ربما أخطأت فيها وأخرى تطلّبت حفرًا أكثر. يصير ذلك كله زادًا أحمله معي في التفكير لكتابة مقبلة.

ما الجديد لديك ومتى يصدر؟

* انتهيت قبل أشهر من كتابة مسودة أولى لرواية قصيرة. ما زلت غير متأكد منها. جزءٌ مني ترك تحريرها كسلاً، والجزء الآخر خوفًا من التوقعات. لا أريد أن أقرأها وأنا أفكر بعين القارئ. لكنّ الأمر يسيطر عليّ حاليًا بشكل لا أستطيع الفكاك منه، خصوصاً بعد حصول "باقي الوشم" على جائزة غسان كنفاني. لذا، سأنتظر فترة، وأعود إلى قراءتها مجددًا، وأرى ما يمكنني فعله بشأنها.
______________

عبدالله الحسيني:

كاتب وسيناريست من مواليد الكويت العام 2000، عضو في رابطة الأدباء الكويتية، حاصل على بكالوريوس الأدب والنقد من قسم اللغة العربية في جامعة الكويت، صدرت له: رواية "لو تغمض عينيك" 2017، ورواية "باقي الوشم" 2022.
نالت "لو تغمض عينيك" جائزة ليلى العثمان للإبداع في القصة والرواية 2018. شارك في أمسيات ولقاءات أدبية، بالإضافة إلى كتابة سيناريوهات عديدة، منها ما أُنتج ومنها ما هو قيد الإنتاج.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها