الجمعة 2024/06/21

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

تشومسكي في القاهرة.. محاضرة ومناظرة

الجمعة 2024/06/21
تشومسكي في القاهرة.. محاضرة ومناظرة
وانتقد تشومسكي النظام المالي العالمي، مشيراً إلى النفوذ الواسع الذي تملكه الشركات المتعددة الجنسيات
increase حجم الخط decrease
ربما كان تسرّع الكتّاب والمثقفين المصريين في نعي نعوم تشومسكي قبل التأكد من خبر رحيله، وقبل أن تنفي أسرته، دليلاً على الحضور والتأثير الكبير لأفكار الفيلسوف وعالم اللسانيات الأميركي الشهير في الثقافة والوجدان المصري والعربي، رغم ندرة الحضور أو اللقاء المباشر. فلم أستطع التأكد إلا من زيارتين فقط قام بهما تشومسكي لمصر، في كلاهما ألقى محاضرة في الجامعة الأميركية، الأولى كانت العام 1994 والثانية العام 2012 في أعقاب ثورة 25 يناير، وحضرها جمهور غفير تسبب في ارتباك مروري في وسط القاهرة حيث مقر الجامعة الأميركية بميدان التحرير، ونجح تشومسكي بعدها في زيارة غزة للمرة الأولى.

لم يتبق من زيارة تشومسكي الأولى لمصر، سوى حوار أو مناظرة قام بها مع الكاتب عبد الوهاب المسيري أشار إليها الأخير تفصيلياً في مذكراته التي جاءت تحت عنوان "رحلتي الفكرية"، وقال إنه حاول توثيق اللقاء وتصويره لكن تشومسكي اعتذر في اللحظات الأخيرة بعدما كان قد أبدى موافقته. وربما يتجلى السبب بعد متابعة الطريقة التي سار بها الحوار، ففي البداية يلخص المسيري فكر تشومسكي ونظرياته اللغوية والفلسفية ثم يحاول أن يثبت تناقض بعض أفكاره من خلال أسئلة قال إنه وجهها له مستعرضاً إجاباته المقتضبة، في ما يشبه حواراً من طرف واحد، أو على الأقل هذا ما وصلنا منه.

معجزة اللغة
حسب تحليل المسيري، فإن تشومسكي يرى أن أهم الإمكانات الكامنة في عقل الإنسان هي مقدرته اللغوية، فاللغة عنده تمثل لحظة فارقة في تاريخ الكون، وهي ما يميزه عن الكائنات الأخرى التي تعيش على الأرض. لهذا يتحدث عن "معجزة اللغة" باعتبارها الأداة التي يتكون بها المجتمع وتتقدّم الحضارة ويظهر الفكر. لكن المسيري يسأله في البداية عن الطبيعة، وهل هناك داخل البشر ما يُميِّزهم عن الطبيعة، أم أنهم جزء لا يتجزأ منها لا يتجاوزها قط؟ ثم ألا تعني هذه العبارة -"معجزة اللغة"- خرقاً لقوانين الطبيعة والمادة في حالة الإنسان، أو على الأقل انقطاعاً وعدم استمرار؟ وفي استعراضه لإجابته يقول: "لكن تشومسكي، شأنه شأن كل الفلاسفة الغربيين العلمانيين، يحاول أن يُنكر أية ثنائية حينما يُواجَه بالتضمينات الفلسفية لنسقه المعرفي. ولذا ضاق تشومسكي ذرعاً بسؤالي وأجاب إجابة تنم عن الضيق وقال: الطبيعة هي كل ما هناك، والطبيعة لا تُردُّ إلى شيء خارجها".
 
يعود المسيري ليسأل -ويجيب أيضا-: ما الفرق إذن بينه وبين السلوكيين إذا كان كل شيء بيولوجياً فيزيائياً مُشفَّراً في الجينات؟ وإذا كان علينا أن نتبع الطبيعة أفلا يمكن إذن دراسة الإنسان كما تُدرَس الفئران؟ ألا يمكن لهؤلاء الخبراء أن يوفروا علينا الكثير من العناء ويدرسوا الموضوع الإنساني بآلاتهم العلمية الدقيقة؟ 

ثم يقول إنه دفع السؤال إلى "ناحية حساسة" وسأله: كيف يمكن التصدي لمجموعة من العلماء النازيين الذين يرون أن بإمكانهم إسعاد البشر إن قَبل البشر أن يخضعوا للتجريب ويُذعنوا للنتائج العلمية، فهؤلاء الخبراء بوسعهم أن يستخلصوا لنا قوانين الطبيعة التي يمكن على أساسها تأسيس المجتمع وتحديد ما هو خير وما هو شر وما هو نافع وما هو ضار؟ وماذا لو قال هؤلاء الخبراء إن المسنين والمعوقين واليهود يقفون ضد قوانين الطبيعة (الإنتاجية - السعادة المادية)؟ ماذا يمكن أن نقول لهؤلاء الخبراء؟ أي أنني ألمحت إلى أن هذه العقلانية المادية تؤدي إلى الواحدية والعقلانية التكنولوجية، والتي تؤدي بدورها إلى التجريبية والوضعية والسلوكية والهيمنة والتحكم. فبيَّن تشومسكي أن كلمة "فيزيائي" (أي مادي) حسب تَصوُّره قد تم توسيع مدلولها تدريجياً لتغطي أي شيء يمكن فهمه، ولذا فالكلمة لا تُعرَّف بمعزل عن العقل. ومضمون الكلمة سيتسع ليغطي كل الخصائص التي يكتشفها العقل، فأشرت إلى أن المرجعية النهائية في هذه الحالة ستظل هي العالم المادي والفيزيائي، أي أن الإنسان يُستوعب في الطبيعة وذكَّرته بالعبارة التي استخدمها "الطبيعة لا يمكن أن تُردُّ لأي شيء خارجها".

الدين والأدب والفن
يستمر المسيري في استعراض أسئلته فيقول: طلبت من تشومسكي أن يُفسِّر لي ظاهرة ما بعد الحداثة في الغرب، وهي فلسفة تقف على طرف النقيض من فلسفته، فهو يؤمن بمعجزة اللغة ومقدرة الإنسان على توليد نظم اتصالية تستند إلى إنسانية مشتركة، أما ما بعد الحداثة فتؤدي إلى انفصال الدال عن المدلول وإلى عطب اللغة واستحالة التواصل ومن ثم إلى انسحاب العقل واستحالة إقامة العدل. وكان الهدف من السؤال أن أُبيِّن له أن النظم الفلسفية المادية يمكن أن تؤدي إلى أي شيء، وأن إيمانه بالإنسان، النابع من إيمانه بمعجزة اللغة، هو إيمان نابع من شيء كامن في الإنسان، لكنه مُتجاوز للنظام الطبيعي. فكان رده هذه المرة جافاً وصارماً إذ قال: إن ما بعد الحداثة نتاج ثرثرة المثقفين الفرنسيين الذين يجلسون على المقاهي يضيِّعون وقتهم في ما لا يفيد!

وأخيراً، يصل "الصراع" إلى النقطة التي يبدو أن المسيري أرادها من البداية؛ قضية الدين والأدب والفن، فيتعجب المسيري من أنه، رغم حديث تشومسكي المستمر عن الإبداع، لا يعالج إلا السياسة، أما كتاباته اللغوية فهي لا تتعرض أبداً لأية نصوص أدبية، والنص الأدبي نص لغوي مكثف يبيِّن معجزة اللغة عن حق. ورد تشومسكي بأنه سمع هذا النقد من قبل، ولعل انشغاله بالسياسة هو السبب، وهو تفسير لم يُقنع المسيري بطبيعة الحال. أما في ما يتصل بالدين، فقال إنه لم يمكنه قط أن يتعامل مع فكرة الإله أو ما وراء الطبيعة ولا يمكنه أن يفهمها، وأن مناقشة مثل هذه الأمور أمر لا طائل من ورائه. ويعلق المسيري أخيراً: "أعتقد أن إهماله الدين والأدب والفن، نابع من حتميته البيولوجية الواحدية، ولذا فهو يؤثر الابتعاد عن الحقول المعرفية التي يمكن أن تثير له أسئلة تقع خارج نطاق نموذجه المعرفي".

نحو الهيمنة
المحاضرة الثانية ورغم أنها تناولت "ثورات الربيع العربي"، إلا أنها لم تخل من الحديث عن الطاقة والبيئة والاقتصاد العالمي، حيث قال: "إن العالم الذي سنورثه لأبنائنا وأحفادنا عالم لا يدعو للفخر والاعتزاز، فالصورة ليست جميلة"، واستعرض دراسة علمية تؤكد تزايد التهديدات المحتملة لكوكبنا، وتقول إنه خلال السنوات العشرين المقبلة، سيموت مئة مليون نسمة بسبب التغير المناخي، معظمهم في الدول الفقيرة.

وفي الشق السياسي لم يختلف حديثه كثيراً عما اعتاد قوله في كتبه وأبحاثه المتعددة، إذ أكد حسب المتابعات الصحافية القليلة المتبقية بعد أزمة الحذف التي طاولت أرشيفات الصحف، أن الولايات المتحدة لا تريد أن تري سياسات في الشرق الأوسط تعكس الرأي العام وتعبر عنه، وقال تشومسكي إن هناك خطراً في منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة، يتمثل في احتمال أن تتحرك المنطقة صوب "استقلالية لها معنى". وأكد أن هذا يمثل تهديداً خطيراً لأميركا، مستشهداً بدراسات كثيرة للرأي العام العربي أجرتها وكالات أميركية لاستطلاع الرأي، توصلت إلى نتائج مشابهة تفيد بأن الولايات المتحدة لا تريد حقاً أن تعبّر السياسات في الدول العربية -كمصر وغيرها- عن الرأي العام لشعوب المنطقة، وظهر ذلك جلياً في دعمها للأنظمة العربية خلال الأيام الأولى للثورة، وقبل ذلك حين فازت "حماس" في انتخابات ديموقراطية ونزيهة في قطاع غزة (كانت الانتخابات الأخيرة في القطاع، منذ العام 2006 وحتى لحظة كتابة هذه السطور). وقال إن سياسات الولايات المتحدة لم تكن لتتغير إذ لم تكن تحتاج نفط الشرق الأوسط، فهي تسعى نحو الهيمنة على الشرق الأوسط، وليس للحصول على النفط فحسب، فمواردها المحلية تكفيها، لكن الهدف هو الحصول على مزيد من السيطرة والهيمنة على النظام العالمي وقواعد اللعبة فيه.

واستطرد: إن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي المنهار كانت صراعاً على الهيمنة على العالم، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي أخذ النفوذ الأميركي يتسع شرقاً مع تمدد حلف الناتو الذي نشأ لمواجهة الاتحاد السوفياتي أساساً في ألمانيا الشرقية. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي تحولت وجهة الناتو إلى حماية نظام نقل الطاقة ومواردها عبر العالم، وأصبح الآن قوة تدخل عالمية كبرى، تتدخل في أحيان كثيرة باسم الأسباب الإنسانية لكنها ليست سوى وجه آخر للاستعمارية القديمة.

وانتقد تشومسكي النظام المالي العالمي، مشيراً إلى النفوذ الواسع الذي تملكه الشركات متعددة الجنسيات على حكومات العالم، وتدخّلها في إدارة الملفات الحساسة والقضايا الكبرى والسياسة الخارجية للدول. وقال إن تلك الشركات تتحكم حتى في سياسات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لصالحها: "تقود الولايات المتحدة التي تتحكم فيها الشركات الكبرى ومتعددة الجنسيات، نظاماً اقتصادياً يقسم العالم إلي قسمين، الأول الأغنياء جداً، وقسم آخر لأي آخر بخلافهم، وتلك القسمة هي النقلة الأكبر في التاريخ المالي الحديث مع التحولات التي حدثت نحو سياسات الليبرالية الجديدة في عهدي رونالد ريغان في أميركا ومارغريت ثاتشر في بريطانيا".

ويرى تشومسكي أن وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" هي إحدى وسائل استغلال المال العام لدعم الشركات الكبرى، مضيفاً إن جزءاً ضخماً من موازنة "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" حيث يعمل، تأتي من البنتاغون. وعلق على ذلك متهكماً: "لا أعتقد أن جامعتي تقوم بأي عمل عسكري إلا إذا كانت البنتاغون تعتبر العلوم السياسية كذلك". لكنه قال أيضاً إن التأمل في تلك المسألة يكشف جانباً آخر عن البنتاغون، فهم يهتمون بدعم أبحاث معينة في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والعلوم الجوية لدعم الشركات الكبرى، والتحكم في العالم ليس عبر القوة وحدها، ولكن عبر الاقتصاد أيضاً.

معرض العنف والكرامة
بعد شهور قليلة من هذه المحاضرة، ألقى تشومسكي محاضرة أخرى نظمها له صديقه إدوارد سعيد في لندن، وحضرها أكثر من ألف شخص ،وثق فيها زيارته لغزة وتحدث عن التقارير التي تصف ما يحدث هناك من فظائع، لكنه قال أيضاً: "كان قطاع غزة طوال هذه السنوات معرضاً للعنف من كل نوع يمكن تخيله.. ويتضمن السجل تلك الفظائع السادية والمخطط لها بعناية. (لكن) بينما تشكل غزة تجسيداً للقدرة البشرية على ارتكاب العنف، فإنها تشكل أيضاً مثالاً مُلهماً على الحاجة إلى الكرامة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها