الجمعة 2024/07/19

آخر تحديث: 10:53 (بيروت)

"الثلث الخالي" لفوزي بنسعيدي.. حكايات شافية من المغرب العميق

الجمعة 2024/07/19
"الثلث الخالي" لفوزي بنسعيدي.. حكايات شافية من المغرب العميق
"القصص لا وجود لها، فهي موجودة فقط من خلال مَن يستمع إليها".
increase حجم الخط decrease
مهدي وحميد صديقان منذ فترة طويلة، ويعملان في وكالة تحصيل ديون في الدار البيضاء. لمعاقبتهما على أدائهما السيئ، ترسلهما إدارتهما إلى الصحراء المغربية لتعقّب بعض المَدينين المتعثرين. يقودان سيارتهما العتيقة عبر قرى نائية في الجنوب المغربي ويتشاركان غرفاً مزدوجة في فنادق متهالكة. لهما الحجم نفسه تماماً ويرتديان البدلات وربطات العنق نفسها وكذلك الأحذية. يتقاضيان راتباً زهيداً ويحاولان صقل مهاراتهما في جمع المال المنوط بهما (الحزم والشدّة والقسوة بعض هذه المهارات المطلوبة) من أصحاب الديون والقروض المتعثرين من فقراء الجنوب. ذات يوم، في محطة وقود وسط الصحراء، تقف أمامهما دراجة نارية. رجل مقيّد في رف الأمتعة، مهدَّداً. إنه المَدين المتهرّب الذي يلاحقانه. يمثل هذا اللقاء بداية رحلة غامضة غير متوقعة وتراجيديا كوميدية هزلية، حكاية على النمط الويسترني تُظهر المغرب الذي نادراً ما يظهر في الشاشة.

بأعمالٍ قليلة ولافتة، أغرانا المخرج المغربي فوزي بنسعيدي بانتظار أفلامه. جديده، "الثلث الخالي" (أو "صحاري" في عنوانه الفرنسي) يأخذنا في رحلة من الحلقات السردية، تتفرّع بحريّة من نوعٍ سينمائي إلى آخر. فيلم محموم وتأمّلي للانجراف في تيّاره. يستكشف الفيلم مواضيع العزلة، والبحث عن الهوية والمعنى في عالم حديث معقّد ومتداخل ومتناسخ. عبر تتبّعه رحلة بطليه عبر صحاري جسدية وعاطفية، فيما يكافحان من أجل العثور على مكانهما في بيئة دائمة التغيّر. مع مناظر طبيعية خلابة وانعكاس عميق للوجود البشري، يعد "الثلث الخالي" بتجربة سينمائية مكثفة واستبطانية.

صحاري العنوان، بالمعنى الحرفي والمجازي، متراكبة: اثنان من موظفي تحصيل الديون، مهدي وحميد (فهد بنشمسي وعبد الحاج طالب) يتقاطعان مع الصحراء، مع نفسيهما، كما مع الفقراء الذين يحاولان ترهيبهم، وصحاري عاطفية كبيرة، ونقصٍ، وفراغ. التناقض بين الصحراء على مدّ البصر وانتفاء وجود منظور للشخصيات، في واقعٍ مسدود، مذهلٌ وكاشف.


تبدأ الأحدث بلقطة مقرّبة لخريطة تطير بعيداً لتترك بطليها مفقودين على جانب الطريق. تسلسل أول يعمل كإعلان عن نوايا لفيلم يقترح، بشكل فعّال، رحلة (في شكل فيلم طريق فريد من نوعه) تدور أولاً في دوائر لتنتهي بالمشي إلى أي مكان. مع الأفق اللامتناهي لصحراء جنوب المغرب كإطارٍ مادي، لكن أيضاً كفضاء عاطفي، ينتظم "الثلث الخالي" في جزأين ليبدأ بسرد قصة خاسريْن، مهدي وحميد، جعلتهما الأقدار جامعَي ديون في قرى صغيرة يُغرق البؤس سكّانها. وهكذا، فالواقعية المبدئية، مع مسحة سياسية معيّنة (دائماً أنيقة ومنمّقة عبر ألعاب الضوء وتباين الألوان والتراكيب حيث تكتسب المناظر الطبيعية قوة في مقابل الوجود البشري) تتحوّل إلى كوميديا مضحكة وساخرة، للعثور أخيراً على قصة ولدت من تمزّق إلى حد ما "لينشي" (نسبة إلى ديفيد لينش) للقصة الأولى.

وهكذا، من الممكن التفكير في "الثلث الخالي" كفيلم داخل فيلم، فيلمين ينظران إلى بعضهما البعض في مرآة ثم ينجرفان نحو مناطق غير محددة تتحاور مع عناصر من الويسترن، والخرافة، وحتى التجريد مع بعض الميل نحو التجاوز والتعالي والصوفية ربما.

يعمل الجزء الأول من الفيلم وفقًا لآليات هزلية فعّالة للغاية، في مزيج من الاسكتشات الهزلية السخيفة، حيث يفشل الشريكان بشكل منهجي في استرداد المطلوب. سجادة، عنزة، مصالحة بين زوج وزوجته.. مكاسب صغيرة يعودان بها، لكنها غير كافية بالطبع للمراد المفترض بهما تحصيله. فجأة، يتحوَّل الفيلم إلى مفترق طرق نحو أرض الويسترن، حين تدخل إحدى الشخصيات الداعمة إلى مركز القصّة وتتكشّف قصة خيالية حالمة، رائعة في حد ذاتها، لكن لا علاقة لها بالنصف الأول من الفيلم. يلتقي الموظفان مع هارب، وتهرب القصة بدورها. كما لو أن نصفي الفيلم يتردّدان فجأة عبر فراغ الصحراء: نجد خريطة، وشخصيات نسائية استبدادية، وأنماط نسيج، والعديد من العلامات الصغيرة الأخرى المنتشرة في الأرجاء.

حصى صغيرة في صحراء لا تذهب إلى أي مكان على وجه الخصوص. بأناقة، يقاوم الفيلم أي حدّ أو تصنيف، ليقدّم نزهة سينمائية بالمعنى النبيل. من الكوميديا إلى الدراما، من الرواية إلى الشعر، يسمح فوزي بنسعيدي لنفسه بكل التوغلات. بعيداً من مسارٍ بعينه، يُفاجأ المتفرّج باستمرار، من تسلسلٍ إلى آخر، بالفجوات في القصة، بالتغيّرات في النبرة، بالانطلاقات الشعرية. الموسيقى، والتعاويذ، ومقتطفات الحكايات، دسائس وأسحار وعلاجات. لأنه، باقتباس كلمات مهدي: "القصص لا وجود لها، فهي موجودة فقط من خلال مَن يستمع إليها". لذلك مع هذا الفيلم الجميل، الأمر متروك لنا لنخلق الوجود، ونتنفس بحريّة، ونختبر القوة الشفائية للحكايات.

(*) عُرض مؤخراً في القاهرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها