الثلاثاء 2024/06/25

آخر تحديث: 19:18 (بيروت)

المرح الخطير

الثلاثاء 2024/06/25
المرح الخطير
شاطئ صور جنوبي لبنان (8 حزيران 2024 - غيتي)
increase حجم الخط decrease
محمد رعد يعتريه القلق. مصلحة الوطن والمجتمع في خطر. ليس فقط بسبب الاعتداءات والتهديدات الإسرائيلية للبنان. ليس فقط بسبب احتمال موت عدد أكبر ممن ماتوا ويموتون فعلاً، ودمار أكثر ما دُمّر ويُدمّر فعلاً منذ تسعة أشهر ومنذ سنوات والأرجح لزمنٍ مُقبل. بل ربما، فوق ذلك كله، بسبب "النفعية الأنانية" لبعض اللبنانيين "الذين يريدون أن يرتاحوا، وأن يذهبوا إلى الملاهي وإلى شواطئ البحار، وأن يعيشوا حياتهم". هذه ظاهرة مرعبة، بحسب رئيس كتلة "حزب الله" النيابية. ساحقة ماحقة. مشروع خيانة لأنها "وراء الأكاذيب والتلفيقات والإشاعات التي تضجُّ بها وسائل التواصل الاجتماعي".


ما يُعتبر مقاومة في أي بقعة أخرى من العالم، وفي أي قاموس بَشَريّ، يعترف بالناس والأفراد، بأحلامهم البسيطة وأطفالهم وأعمارهم التي يذودون عن هدرها في حروب أزلية سرمدية على طريقة "الفن للفن"، وبرغبتهم الفطرية في العَيش المُستطاع... ما يُعتبر مقاومة لشبح الفناء، بالحياة والإصرار عليها والتمسك بتلابيبها، يُمسي في خطاب الرعد، ميوعة مُهدِّدة للوطن والمجتمع اللذين لا أمان لهما ولا حتى احترام إلا في كنف استنفار عسكري وأمني دائم لا يقرره إجماع وطني ومجتمعي.

قد يفكر بسطاء العقل والعزيمة أن هذا هو بالضبط هدف المقاومة المسلّحة، أياً كان مالك شروط استمراريتها بين مختلف أطراف الوطن (والإقليم!). يفترض ضعاف النفوس أن الهدف الأقصى، الأسمى للتضحية، هو استمرار يوميات عاديات لا يهددها شيء، لا ينغصها شيء. وإن كانت الأزمات الاقتصادية والسياسية والدولتية "قدراً" لا فكاك للبنانيين منه، فليكُن الأمن والأمان في حِمى "المقاومة"، وطنية كانت، أم رَضينا بها فوق وطنية. الاستقرار من أجل أن يعيش اللبنانيون حياتهم بما تيسّر، على الشواطئ وفي الملاهي، كما في البيوت والمدارس والمستشفيات وأماكن العمل. لا؟ لا.  

قد يعتقد محدودو البصيرة أن حلم المتراس هو الهدنة، أن بوصلة القتال هي السِّلم، أن أمل المقاتل هو تفويت فرص استخدام سلاحه، لينضم مع عائلته وأصدقائه إلى "العائشين حياتهم" كيفما أرادوا وأراد عيشها. لكن الخطاب الرعدي أذكى من ذلك بكثير، أعمق من ذلك بكثير، أكثر حكمة وترفّعاً عن ترهات من هذا النوع. هذه سخافات لا تكتفي بوهن نفسية الأمة، على ما يقال في أدبيات "الحُكم مِلح الأرض"، بل تعرّضها للخطر. هذه أنانية مَن يريدون "أن يعيشوا حياتهم"، وكأنهم سيعيشونها وحدهم دون مواطنيهم. أنانية "مَن يريدون أن يرتاحوا"، في مقابل... ماذا؟ غيريّة مَن يتمنون تعباً وحرباً وخسائر، بلا نهاية، يعيشون بين خرائبها سعداء إلى الأبد؟ و"أنانية" في مقابل مَن؟ الجنوبيون الذين ينزحون ويدفنون أحبّة ويخسرون أشجارهم وبيوتهم وضحكات أولادهم؟

هل هذا ما يريده الجنوبيون حقاً؟ الضاحية؟ البقاع؟ لبنان الكبير؟ وهل يرفعونه لافتةً بالخط العريض في وجوه اللبنانيين العائشين حياتهم؟ النائب محمد رعد يظن ذلك، بل يجزم به، ولا داعي لسؤال أحد. و"المفارقة اللبنانية" التي تحتفي بها وكالات الأنباء العالمية، فتصوّر لبنانيين يمرحون ويلهون رغم التعب العام والتلويح بحرب أكبر... هذه بالضبط هي المؤامرة، الخدعة التي كشفها بمفرده.

لكن "الحاج"، والحق يقال، لطالما كان صاحب مبدأ، لا يحيد عنه. فمنذ عشر سنوات تقريباً، حرّك الضجة نفسها عندما قال في أحد خُطبه عن لبنان أنه "كان محل عقد صفقات، ساحة للملاهي الليلية وللسمسرات. لكن الآن لا بد من لبنان جديد ينسجم مع وجود مقاومة في لبنان".

الرجل لا يلين في أوقات المِحن والصّعاب. في أيام البحبوحة، كما أيام الدولار الصاروخي. في أيام السّلم، كما في أيام ما بعد انفجار المرفأ وتهديد قبرص وحرائق الجنوب من أجل ذاك المجد المُجرّد كلوحات كاندينسكي... لا يتغير، ثابت، عَصيّ مثل لبنان الذي في باله: سواده رصين، لا رواد مَلهى يتربّصون به، ولا مرتاحين على شاطئ يدمّرون البلد بأجسدهم اللامعة تحت الشمس. لبنان الذي بعض شعبه نازح، بعضه قتيل، أو مُهاجِر، مرتاح في حظائر الطوائف، أو مُعدَم.. لكن الكل سواسية في التجهّم المحترم.    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها