الأحد 2024/03/31

آخر تحديث: 08:43 (بيروت)

"سيّدي موليير" لأنس الطرابلسي... في جذور المسرح العربيّ

"سيّدي موليير" لأنس الطرابلسي... في جذور المسرح العربيّ
أنْس طرابلسي
increase حجم الخط decrease
هل حقّا كان موليير يفكّر في أهل تونس وهو يكتب مسرحيّته "مدرسة النّساء"؟ في ظاهره، يبدو السّؤال طريفًا وحتى عبثيًّا، ولكنّه يثير في العمق سؤال الاقتباس والتقليد وسفر النّماذج الفنّية بين الثقافات المُتغايرة. وهذه ذات القضيّة التي سبرت أغوارها الباحثة التونسيّة المقيمة بفرنسا، أُنْس الطّرابلسي (أستاذة الأدب العربي الحديث بجامعة لوران)، في كتابها "سِيدي موليير: ترجمة آثار موليير إلى العربيّة وتكييفُها"، الصّادر مؤخّرًا عن دار غارنيي للنشر بباريس. 

تعود هذه الباحثة إلى إرهاصات المَسرح في العالم العربيّ أواخرَ القرن التّاسع عشر ومطالع القرن العشرين، حين شهدت مصر وبلاد الشام حركيّة ثقافّية قامت، مثل سائر قِطاعات الحضارة الأخرى، على الاحتكاك بأوروبّا والتفاعل مع وجهيْها المتناقضَيْن: الاستعمار والتمدّن. لذلك، ابتدأ المخرجون الفتيّون باقتباس أشهر الأعمال الفرنسيّة، مثل آثار موليير، وتعريبها وتكييفها حسب جمهورهم. فحين نُطلق مصطلح "التعريب"، في هذا السّياق، فهو ينصرف إلى إضفاء طابَع عربيّ محليّ على شخصيّات هذه الآثار وحملُهما على النطق بلهجات بلداننا وتصوير طباع أهلها وعاداتهم وطرائقهم في اللباس والكلام. هو مسار إعادة تأويل كاملة تُلبس الشّخصيات هيئة عربيّة، حتى لا يكاد يبقى من الأصل الفرنسي إلا صداهُ البعيد. 
ولتفكيك عمليّة التعريب هذه، عادت أنس الطّرابلسي إلى أعمال المسرحيّين العرب، اللبنانيين والمصريين، وحللت مظاهر "التّحويل العميقة"، والمصطلح للناقد الفرنسي جيرار جينات (1930-2018)، التي مورست على مكوّنات النصّ الأصلي حتى تتطابق مع آفاق الجمهور المحليّ وذائقته وآفاق انتظاره. كما استرجعت المحطات التاريخيّة، رغم تعثّرها، لظهور مسرح عربيّ محض، تخلّص تدريجيًّا من عُقد التقليد والمحاكاة والاقتباس والترجمة والنقل والتحويل، لينشئ قالبًا فنّيا، شرقيَّ الرّوح والهيئة. 


وللدلالة على هذا المسار المتعرّج، قسمت أنس الطرابلسيّ بحثها إلى ثلاثة أقسام: عالجت في الأول منها طلائع المسرح العربي عبر تحليل أشكاله الابتدائيّة وعلامات التأثير الأجنبيّ في مثل أعمال مارون النقاش (1817-1855) التي كانت تعبّر عن تداخل بنيويّ بين المرجعيّة المحليّة، كخيال الظلّ وأدب المقامات وسرديات "ألف ليلة وليلة"، مع العناصر الخارجيّة. وقد عادت بالتحليل إلى آثاره الشهيرة: "البخيل" (1847)، "سليط الحسود" (1851) و"أبو الحسن المغفّل" أو "هارون الرشيد" (1850). وأما القسم الثاني، فعالجت فيه أشكال حضور مسرح موليير في مصر منذ لحظة اكتشافه في مصر بُعيْد حملة نابليون (1798-1801) إلى حين تملّكه وتجاوزه، متعقّبة خصوصيات النتاج المصريّ في آثار يعقوب صنّوع (1839-1912) "العليل" و"الأميرة الإسكندرانية"، وأعمال عثمان جلال "الشّيخ المتلوف" (1873) و"مدرسة النساء" (1890). وأما القسم الأخير فخَصّصته لدراسة تأثير موليير في إنشاء "قالب مسرحيّ" بتونس، محللةً بناء خطابه الأدبي وسجلات القول فيه علاوة على تنظيم الفرق الفتيّة ورصد حساسيّات التلقي التي تعاملت وقتها مع قوالب مسرحيّة متباينة المصادر، مأتاها مغربًا ومشرقًا. وكان مستندها في ذلك مسرحيّة "الماريشال عمّار" (1967). هذا، وقد استخدمت في تفكيك مكوّنات هذه الأعمال مناهج النقد الأدبيّ الحديثة كالدلائليّة والأسلوبيّة والإحصاء المعجميّ وغيرها. 


وهكذا توالت النماذج التحليليّة للتدليل على حقيقة واحدة: لم تكن آثار موليير سوى منطلق، ليس الأوحد، تطوّر تكييفُها عبر التّجارب والتحويرات والأخطاء والمراجعات حتى استوى قالبًا عربيّا خالصًا. ولذلك، أوردت أنس الطرابلسي تحليلاتٍ دقيقة لتفاصيل النّصوص إلى جانب معلومات شائقة عن الوضعيّات الاجتماعيّة للعاملين في هذا القطاع وما عانوه ابتداءً من هشاشة اقتصاديّة وازدراء اجتماعيّ. فقد كانت ظروف ولادة المَسرح صعبةً، بل قيصريّة، كابد خلالها الفنّانون شتّى صنوف التهميش، إلا أنهم برعوا في الالتصاق بروح الشعوب العربيّة تعبيرًا عن شواغلها العميقة ولغتها وهيئتها، ولعل هذا ما مثّل عامل تعزيز لدورهم ومادّة لإنشاء طابع محلّي مارس تأثيرًا أكبر من النّصوص الفرنسيّة التي يُرمَوْن باقتباسها.

 
وإلى جانب المصادر الغربيّة التي نقدتها الباحثة وبيّنت مركزيّتها ورؤاها الاختزالية، استشارت عديد المصادر العربيّة (مقالات وكتب وصحف وأرشيفات) التي لا تتصل بالمسرح فحسب، بل بالسياق الاجتماعيّ والسياسيّ الذي تحكّم في آليات الحوار وبناء الشخصيات والتلقي. ومنه التشديد على الوضع الاستعماري الذي يُعدّ المفتاح الأهمّ لفهم نشأة المَسرح العربيّ وتطوراته، فقد كان الاحتلال في الآن نفسه عائقًا وحافزًا لظهور قالب محليّ انتهى تدريجيًّا إلى الاستقرار. 
ومن طرائف ما أشارت إليه في هذه السيرورة وصف المؤرّخ التّونسي أحمد بن أبي الضّياف (1804-1874) لاكتشاف باي تونس للمسرح في باريس (1847) وهو من أول نصوص أدب النهضة التي خصّصت لهذا الفنّ، وقتها لم تكن الضّاد تمتلك أدنى عبارة للإحالة على مكوّناته كمفردات: رُكح، تمثيل، مسرحية، ممثّل، حبكة، شخصيّة، حوار...، مما أجبَر ابن أبي الضّياف على نحت مفردات تفسيريّة. 

كما شدّدت الباحثة على ما كان بين المُترجمين والمخرجين والممثلين والعازفين والعملة من تعاون امتدّ من بلاد الشام إلى مصر وتونس، بعد أن دخلوا جميعًا ضمن حيويّة فريدة من أجل النهوض بهذا القطاع الفتيّ، لتصل الى نتيجة مفادها أنّ هذا التعبير الفنّي عريقٌ في المخيال العربيّ، ضاربةُ جذورُهُ في المجتمعات العربيّة وتراثها الثقافي والشّعبي، الشّفوي منه والمكتوب. فلا مجال، والحالة هذه، أن يُغمط المسرح العربي حقّه وأن "يُلحق بغير أبيه" أو يُعزى لغير ذويه، كالمركزيّة الأوروبيّة التي تربط كلّ مظاهر الإبداع "بالعبقريّة" الفرنسيّة، كأنّ العالم عالة عليها. 

بهذا الكتاب، تنسف أنس الطرابلسي مقولات المستشرقين والمستعربين الذين يرون في "بخيل" مارون النقاش مثلاً مجرد ترجمة لمسرحية « L’Avare » لموليير، ليكتبوا بعد ذلك تاريخًا للمسرح العربيّ بوصفه مجرّد نسخة مشوّهة عن نظيره الفرنسي ويحصروا نشأة هذا المسرح في المؤثر الغربيّ، كما لو لم يكن للعرب من تراثٍ ولا ذاكرة تَسمح لهم بتوليد قالب خاص بهم. 


في مقابل ذلك، برهنت الباحثة التونسيّة على أنّ المسرح العربيّ نشأ بفضل خليط معقد من المؤثرات الداخليّة، منها الكراكوز وتقنيات "ألف ليلة وليلة" وتقاليد الغناء التي ازدهرت في الحواضر الإسلاميّة الأولى كالكوفة والبَصرة ومكة، ويكفي كتاب "الأغاني" دليلاً. كما لم يكن مجرّد تقليد لتراث المسرح الفرنسيّ، بل استيحاء يقوم على ما يسميه تودروف: "علاقة حواريّة". 


وللتاريخ، أسرّت أنس الطرابلسي لـ"المدن" أنّها لما شرعت في إنجاز هذا البحث، سنة 2010، اندلع الربيع العربي في كلّ من تونس ومصر، فكاد أن يتوقّف كلّ شيء. لكنها أصرّت رغم أنها عانت الأمرَّيْن من أجل الحصول على التأشيرات اللازمة والنفاذ إلى دور الأرشيفات والمكتبات، وهو ما أحبطها. كانت تؤمن بأنّ دافعها المعرفيّ هو أيضا "ثوريّ": التشديد على نضال المسرحيين العرب في بناء هوية فنيّة خاصّة، رفضًا للإملاء الغربيّ وتحريرًا للوعي من الاستلاب. فللمسرح العربي جذورٌ راسخة، كعود المِسك، حَرَّكته أعمال "سِيدي موليير"، فازداد طيبُهُ. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها