الإثنين 2024/08/12

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

محلل في الاستخبارات الأميركية يكتب رواية..."مهمة دمشق" لذة منقوصة

الإثنين 2024/08/12
محلل في الاستخبارات الأميركية يكتب رواية..."مهمة دمشق" لذة منقوصة
تجري أحداث الرواية بين باريس ودمشق
increase حجم الخط decrease
"مهمة دمشق" رواية جَوْسَسة وعَمالة، صدرت مؤخّرًا في أميركا وسرعان ما تبعتها ترجمتُها الفرنسية. تجري أحداثها بين باريس ودمشق، وتختلط فيها الحبكة البوليسيّة بتوصيف الواقع السياسي الذي حكم دواليب النظام السوري قبيْل الثورة بأشهر، حيث تتقاطع الممارسات الأمنية بالمصالح الاقتصاديّة والتأثيرات الأجنبيّة، وكل ذلك مع ما تبقّى من إيديولوجيا القوميّة العربيّة.

 

عاد كاتب الرواية، دافيد ماك-كلوسكي، الذي كان يعمل محللاً في وكالة الاستخبارات الأميركية CIA، إلى عشرات الوثائق من أجل صياغة حبكة متقنة، ظاهرها مهمة تسلل تتحوّل تدريجيّا إلى علاقة عاطفية تقود إلى أعلى هرم السلطة السورية من أجل فضحه والكشف عن دواليبِهِ وأساليبِهِ. وبالاعتماد على "تجربته المهنية"، تمكن ماك-كلوسكي من خوض غمار جنس قصص الرعب البوليسية بما يحكمها من قواعد وكليشيهات سبق للناقد الفرنسي تودوروف أن حللها. وهي قواعد صارمة تحكم بناء الكون المتخيّل وتحولاته القصصيّة وتفرض منطقها على الأحداث والشخصيات.

وهكذا، يرمينا الكاتب في مسارات انتداب العُملاء والجواسيس لدى الوكالة الأميركية ولدى النظام السوري، فضلاً عن آليات التسلل والتنكر والاختراق التي يُجريها المحترفون منهم في دوائر القرار السياسي والعسكري من أجل الحصول على المعلومات الحساسة. وكأنه بذلك يضمن كتابه هذا، الذي يتألف من 560 صفحة، بعدًا تثقيفيا أو تعليميّا.

واللافت كيف سمحت وكالة الاستخبارات الأميركية لمُوظَّفها السابق بأن يكشف للقراء آليات انتداب العملاء وطرق تسللهم واندساسهم، مع أنها طرق شديدة السّريّة ملتوية، تتطلب ليس فقط خيالاً واسعًا، وإنما جرأة كبيرة، وهو ما أضفى على الرواية طابعًا تشويقيا تعرّف من خلاله القارئ على هذه الوسائل المنتمية إلى دائرة "السري للغاية". وقد أكد الكاتب هذا الجانب التعليمي حين ذكر، في بعض مقابلاته، أنه طالع عديد الكتب والمقالات من أجل بناء الكون المتخيَّل لروايته، كما عاد إلى الوثائق التي رصدت وسائل التعذيب الوحشية التي يمارسها النظام السوري في الأقبية والزنازين ضدّ كلّ مَن تُشتم منه رائحة المعارضة.

أما حبكة هذه الرواية فتدور حول "مهمّة"، كُلّف بها سام جوزاف: العثور على الضابط المتورط في قتل الدبلوماسية الأميركية فاليري أون في دمشق. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، اتصل سام بمريم حداد، وهي موظفة سامية تعمل بتفانٍ واقتناع في قصر الرئيس بشار الأسد وقد أرسلها نظامه إلى باريس في "مهمة" إقناع أحد المعارضين بالعودة الى دمشق مقابل إسقاط التهم التي وُجّهت إليه. وفي الحقيقة، لم يكن هذا الرجل سوى موظف بجهاز المخابرات، يسعى بدوره إلى انتدابها حتى تكون "عميلاً مزدوجًا" لصالح أميركا. كمين نَصبه لإيقاعها في واحد من الأساليب التي يتقنها كلاهما.


وفي هذه الأثناء، خفق قلب سام جوزيف وأحس بميل نحو مريم، مع أنّ قواعد المهنة تقتضي ألا يُكِنَّ أدنى شعورٍ لمصادر المعلومات. وما لبث أن تبعها إلى دمشق؛ ولم تكن هذه العلاقة لتخفى على دمشق، فقد كان أحد رجال المخابرات يراقب مريم دون هوادة. وهنا، تتدخل أجهزة المخابرات الروسية وتعلم نظيرتها السورية بالشكوك الجادة التي تحوم حول هذا الذي يقدم نفسه الرقم إثنين في السفارة الأميركية. فتنبري سبعة فرق روسية وسورية لملاحقة سام ومريم عبر شوارع مدينة دمشق العتيقة وأنهجها الملتوية وآثارها المعمارية الرائعة وتنتهي القصة، كما بدأت بهتاف الثائرين: "سلمية! سلمية!"، تلك الصيحات التي دشنت لأكثرَ من عقد فظاعات الحرب السورية.   

هذه هي الحبكة بإيجاز. وهي تقع في مفترق الطرق بين الأدب البوليسي ورواية الجوسسة والتصوير الواقعي، ملقية على عاتق القارئ فك الألغاز والأسرار التي تحيط بهذه الأنظمة التي يكتنفُها الغموض. فهل نجح الكاتب، من خلال تجربته كمحلل سابق في تشريح أساليب الأنظمة الديكتاتورية التي تستخدمها في إخماد كل صوت سوى صوتها؟

لا شك في أنّ مثل هذا الأدب قادر على أداء "المهمة"، شرط ألا يقع في براثن الأفكار النمطيّة التي تقسم العالَم، رغم تعقيداته، إلى مِحورَيْ الخير والشر، مع الإقرار المسبق بتفوق المحور الغربي ونسبة كل الشرور إلى عالمنا العربي، وإلى سوريا تحديدًا، ثم تركيز تلك الشرور كلها في النظام الحاكم. فما يؤخذ على هذه الرواية البوليسيّة تقيّدها بالرؤية الأميركية -الغربيّة للنظام السوري الذي ترى فيه التجسيد المطلق للشرّ، أي مجرّد أداة للقتل والتعذيب والمكائد بكثير من السذاجة والمبالغة. ولسنا بصدد تبرئة النظام من الفظاعات التي ارتكبتها أجهزته الأمنية والعسكرية، لكن تناول الكاتب لهذه الفظائع كان كثيرَ المُباشَرة، واقعًا في براثن التبسيط. وعلى غرار سائر الخطابات التي تستعيد الواقع السياسي أو الأمني، فالأدب مدعوّ إلى أن يتسلح بفهم تحليلي معمق للواقع بكل مكوّناته وألا يقصره على جهازه الحاكم وأدواته الاستخباراتية. وفي هذا الصدد، يعزو بعض الباحثين فشل الثورة السورية ذاتها وتعثر إسقاط النظام إلى سلسة سوء فهم وتقدير لواقع التحالفات بين الطوائف والمصالح والمكونات في هذا البلد.

وخلف هذه النظرة السطحية، تكمن أسطورة تفوّق المخابرات الأميركية والقدرات الخارقة لموظفي وكالة CIA الذين يَعلَمون كل شيء ويقدرون على كلّ شيء. كما تكمن الإيديولوجيا الثنائية في تقسيم العالَم إلى دول مارقة، تمثلها سوريا وروسيا وإيران، ودول الخير والحرية التي تجسدها الولايات المتحدة الأميركيّة، وهي نظرة ساذجة تخضع للرؤى المسيحانيّة التي قادت حروب بوش-الابن ودفعته إلى تدمير العراق وأفغانستان، مما يعني أن الكون المتخيل يتحرك على قاع من التمثلات والتصورات الأيديولوجية وهي العقيدة العميقة للدولة الأميركية، بما تحمله من هيمنة ومركزيّة.

كما أنّ التحول من قصة جَوسسة ذات بعد سياسي (الصراع بين الكتلة الأميركية وبعض الشرق المنحاز نحو روسيا)، إلى قصة عشق، ليس فيه كثير أصالة وابتكار، بل إنه متوقع لا سيما أن الكاتب مهّد له بجملة من العناصر والأدلة الروائية مثل اختيار شخصية مريم من الطائفة المسيحيّة وبناء ملامح إيجابية لها، طيلة الفصول الأولى من القصة.

وهكذا، فلذة هذا النص منقوصة، لأنه ينكأ جراحَ بلدٍ عربي عانى شعبه الأعزل ويلات حرب أهلية قاسية، تلت سنينَ من القمع والاضطهاد، قضى فيها ما يزيد على 300 ألف مواطن، وتشرّد نصف الشعب في أصقاع الدنيا. هي لذة منقوصة لأن النصّ اتكأ على تمثلات جاهزة، كانت فيها الأدوار القصصية شبه جاهزة، رغم أن الحبكة تكاد تقطع نفس القارئ التي يتابع أحداثها وتقاطع شخوصها المساعدة والمعارضة.

صدرت هذه الرواية الإنكليزية وترجمتُها إلى الفرنسية في فترة طغت عليها حربُ غزة وفاقت فيها فظاعات إسرائيل كل فظاعات الأنظمة العربية الشمولية مجتمعةً. ورأى الملاحظون مدى ازدواج المعايير بين جرائم الإبادة الإسرائيلية واضطهاد النظام السوري، مع أنّ هذا لا يسوّغ لذاك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها