الثلاثاء 2024/08/20

آخر تحديث: 13:43 (بيروت)

"تأويل القرآن" لجورج تامر: حيوية النص وتاريخانية التفاسير

الثلاثاء 2024/08/20
"تأويل القرآن" لجورج تامر: حيوية النص وتاريخانية التفاسير
ورقة قرآنية بالخط الكوفي
increase حجم الخط decrease
تقوم "الإسلاميات التطبيقية"، كما يسمّيها محمد أركون، على مبدأ التاريخانيّة «historicisme» التي تعني وضع النتاج الفكري في سياقه التاريخي وتحليله على ضوء الأسباب الموضوعيّة التي أنشأته. وحين يُطبّق هذا المبدأ على التفسير القرآني، فإنه ينصرف إلى ربط الشروح التي أنجزها المفسّرون بواقعهم التاريخي- السياسي الذي أنتجها، مع بيان تأثير هذا الواقع في الاختيارات التأويليّة التي يميلون إليها.
 
فإظهار تاريخانيّة التفسير هي عين المهمة التي تصدّى لها الباحث اللبناني، المقيم في ألمانيا، جورج تامر (من جامعة فريديريك-ألكسندر، إرلاغن-نورنبارغ) من خلال موسوعته "تأويل القرآن" (دار دي غريتر) والتي تتضمن مقالات معمقة عن كافة طبقات المفسرين منذ بواكير شروح ابن عباس ومجاهد إلى آخر التفاسير التي صيغت في العقود الأخيرة. 

تنقسم هذه الموسوعة إلى ستة أجزاء، وتعتمد التسلسل الزمني باعتماد تاريخ الوفاة مبدأ لترتيب المقالات التي نُدب إليها أكبر المتخصصين على المستوى العالمي من أجل تحرير مواد نقدية. يلي الأجزاء الستّة، جزء يضمّ الفهارس الشاملة والمراجع. وقد صدرت من الأجزاء السبعة حتى الآن أجزاء أربعة، وسيتوالى صدور بقية الأجزاء تباعًا. 

يتضمن الجزء الرابع تسعة وعشرين فصلاً، تدور رحاها حول التفاسير التي صدرت في القرنين الماضيين، أي التاسع عشر والعشرين، وقد ركّزت على متغيرات الحداثة وتأثيراتها في المجتمعات الإسلامية، وهي تأثيرات تجلت في توسعات المفسرين وتعاملهم مع الإرث التفسيري الماضوي الذي لم يعد يتلاءم، في معظمه، مع اقتضاءات المعاصرة ولا يتناسب مع مفاهيمها وقيمها. 

ذلك أن التقدم الحاصل في مجال العلوم الصحيحة، كالفيزياء وعلوم الأجنّة والمحيطات وغيرها، ثم في حقول العلوم الإنسانية، فرض على الشُّرّاح المعاصرين أن يوائموا بين التأويلات السابقة وبين نتائج هذه العلوم، بل وأن يتبنوها ويضفوا عليها نزعة إسلاميّة مع تأكيدهم أنّ القرآن قد سبق اليها، مثل ما فعل طنطاوي جوهري. 

من جهة ثانية، أثّر السياق الاستعماري ليس فقط في اختيارات المفسرين وإنما في كيفية تصورهم للهويّة الدينية وعلاقتها بالغيرية، ثم في منظومة العقائد والأحكام والأخلاقيات القرآنية التي وُضعت كلها موضع المراجعة بغرض الملاءمة بينها وبين قيم الحداثة والبرهنة على تطابقها مع نصوص القرآن.

أما الرهان المعرفي الذي انبنت عليه هذه الموسوعة، فهو بيان مدى تدخل "الثالث الثقافي"، كما يُسميه علماء الأنثروبولوجيا الأميركية، خلال عمليّة التأويل التي تجمع بين النص والقارئ؛ وهما طرفا مسار القراءة الرئيسان. فلا قراءة بريئة، كما أجمعت على ذلك العلوم الألسنية والأسلوبيّة. وكل قراءة تقتضي تدخلاً من الذات القارئة قد تنتهي إلى حدّ الإسقاط والتوظيف. 

وبهذا الرهان، يختلف هذا العمل عن كتب طبقات المفسرين، مثل كتاب الداودي (ت.1538) قديماً، أو الذهبي حديثًا في مجموعه الشهير "التفسير والمفسرون"، أو حتى "التفسير ورجاله" للفاضل بن عاشور. كما تختلف عنها من ناحية الإجراء اختلافًا جوهريًّا يتمثل في تجنب الإطراء والاكتفاء بالتحليل المعمق لمنهجية التفسير ومصادره والمؤثرات الخارجيّة التي قد تكون وجّهت الاختيارات التأويليّة، لا سيما أنّ النصوص المقدّسة، وفي كل اللغات والثقافات هي عرضة للتوظيف والتوسع والتضييق بحسب الفصول والغايات التي يسعى إلى تحقيقها علماء الدين ومن ورائهم السلطات السياسية. 

تأتي هذه الموسوعة لتسد ثغرة كبيرة في مكتبة الإسلاميات والاستعراب، إذ لا يوجد عملٌ واحد يجمع كل التراث التفسيري وفق رؤية نقديّة وتاريخيّة متسلسلة، تستعيد مراحل التفسير ومصادره ومحاوره. فقد ركّز بعض المفسرين على الجانب اللغوي البلاغي، في حين تخصص آخرون في البعد الفقهي أو العقدي، وتوسع غيرهم في التأويل الحِكمي والعرفاني وحتى السياسي. وكلها منظورات استعاد من خلالها هؤلاء المفسرون النص القرآني سعيًا إلى استجلاء معانيه الثانوية في آياته أو إلى إسقاط معانٍ أُخَر، هي وليدة الصراعات التي يعيشون فيها والأهداف التي يسعون إلى تحقيقها. 

فما يمكن أن يؤخذ على الدراسات السابقة هو إيغالها في التاريخانيّة إلى درجة إسقاط بعض المفاهيم الحديثة عليها، فترى الماضي بعيون الحاضر وتنتقد هؤلاء المفسرين على ضوء رهانات واقعنا وشبكات القراءة التي تغذت بالعلوم الإنسانيّة مما يوقع في مغالطاتٍ تاريخية anachronisme. فهؤلاء المفسرون عالجوا النصّ الديني بأدوات عصرهم ووظفوا معارف استقوها من الثقافات الأخرى، من أجل استجلاء مواطن الغموض العديدة التي تكتنف هذا النص. وتوظيفهم لتلك الأدوات لبناء المعنى القرآني، دليل على حيويّة هذا النص وعلى انفتاح أبنيته الدلاليّة حتى يستوعب متغيرات التاريخ وتحولاته. 

لكن هل صدور هذا العمل في جامعة ألمانية، دليل على تواصل الاستشراق والنظرة النقديّة للقرآن وشروحه؟ لا نظن. فجورج تامر ليس مستشرقًا، بالمعنى التقليديّ للمفهوم، بل هو حامل للمشروع العلميّ الذي شارك فيه أكثر من مائة وثلاثين باحثًا من كلّ جامعات الدنيا، بما في ذلك المسلمون، وتُركت لجميعهم حريّة التحليل والنقد والاستنتاج بشرط مراعاة القواعد العلميّة. ونظن أن الكفّة اليوم قد اعتدلت بين ما سماه الباحث الفرنسي محمد أمير معزي "النزعة المفرطة في النقديّة Hypercriticisme، والنزعة الوصفية، بحيث لم تعد الدراسات تركز على تأثير التراث الإغريقي واليهودي المسيحي الذي لطالما ركزت عليه أعمال المستشرقين، وإنما توظف شبكة من المعارف والأدوات المفهومية التي هضمها سائر الباحثين على اختلاف مشاربهم.  

بقي أن نتساءل ختاماً، ما عسى تفيد هذه الموسوعة القارئَ الاعتياديّ، غيرَ المتمرس في نقاشات المتخصصين حول القرآن وعلومه؟ في الحقيقة، دور هذا العمل العلمي هو تحرير الوعي الاسلامي مما لحقه من أوهام حول قداسة النص التفسيري، ومماهاته بالنص القرآني ذاته عبر كشف النقاب عن آليات التوظيف السياسي التي جعلت من آراء كثيرٍ من المفسرين في مرتبة التعالي. إذ تبين هذه الدراسات مدى تأثير السياقات الاجتماعيّة والسلطوية في توجيه قراءات المفسرين و"تدبير المعنى" الذي يظل رهينَ عصر القارئ، حاملاً هموم واقعه وصراعاته وحتى رغباته الأكثر دنيوية. 

كما تساعد هذه الموسوعة في وضع كل تفسير في سياقه التاريخي، ليرى القارئ غير المتخصص تطور السياقات التي ظهرت فيها تلك التفاسير وتفاعلت مع مكوناتها الثقافية. وهو ما يهدي مشهداً حيويّاً عن تحولات هذا الحقل المعرفي الرئيس في الثقافة العربيّة الإسلاميّة (التفسير)، والذي تفاعل مع حقول اللغة والفقه والتاريخ والحكمة وحتى التنظير السياسي، وما زال يشكل العمود الفقري في الوعي الإسلامي. 

إذ لا يمكن فهم العديد من المساجلات الأدبيّة والاختلافات اللغوية المعاصرة، فضلاً عن أحكام القانون، إلا بالرجوع إلى ما أُنجز من تفاسير تكشف الجدل الخلاق بين النص المتعالي والنصوص البشرية، أي بين الانفتاح على الدلالات المطلقة، والتحيينات المستمرة للمعاني المُحايِثَة. وهذا الجدل هو جوهر المسار التأويلي الذي عالجته هذه الموسوعة، والتي ننتظر أجزاءها اللاحقة على أحر من الجمر!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها