كان حضورنا مع ماما إلى المحل، يعني تناول الكنافة صباحاً على الترويقة، والغداء يكون سندويشات مشاوي يحضرها أبي من سوق اللحم، او فلافل من عند الأرناقوط. كانت روائح البهارات تفوح في الحي من محل(بهارات المشعل) الملاصق لمتجر أمي من الجهة الأخرى.
في أيام الاثنين كان الباعة الآتون من القرى المجاورة يملأون السوق بالصخب والأصوات المنادية على البضائع المعروضة تحت الخيام على البسطات المؤقتة.
أوائل الكتب التي اشتريتها في مراهقتي كانت من بسطات في ذلك السوق بأسعار بخسة، من بينها دواوين المتنبي وأبي فراس الحمداني وأبي النواس، وبعضها لا يزال في مكتبي في بيروت حتى اليوم. واوائل كاسيتات مارسيل خليفة وفيروز اشتريتها من ديسكوتيك الشعّار، وكنت اسمعها وأفرّغ كلماتها على الورق لأحفظها وأفهم معانيها. اول اغنية نسختها من الكاسيت إلى الورق كانت "جفرا"(للشاعر عز الدين المناصرة). افرغت كلماتها كلمة كلمة وحفظتها غيباً: "جفرا الوطن المسبي، الزهرة والطلقة والعاصفة الحمراء...".
لم استطع اكمال الفيديوهات التي وصلتني للدمار الهائل والنيران التي تأكل قلب طفولتي وذاكرتي. هربتُ من المشاهد القاسية و"العاصفة للحمراء" إلى هذه الصورة التي لا أزال أحتفظ بها، وفيها ضحكات طفولتنا، فيها انعكاس البساطة والفرح وراحة البال في السوق الشعبي الذي كان يضجّ بالحياة والصخب والبهجة.
"أرخيتُ سهامي، قلتُ يموت القاتل...".
(رامي الأمين ورفاقه)
وتنقل مدونة
جبل عامل:
يذكر العارفون أنّ النبطية التحتا كانت في أصلها تَجمُّع للنُّزل والخانات والإسطبلات، لِما كانت تُمثّله من عقدة مواصلات بين سوريا وفلسطين والساحل والجبل اللبناني. وينقل المتابعون للشأن النبطاني أنّ ذِكر السوق فيها وَرَد في عدّة مراجع ومصادر، فمنهم مَن يُرْجع السوق للعهد المملوكي، وقسمٌ يُرجعها إلى 400 سنة خلت، كما وجدتُ مَن يرجعها إلى بداية القرن الثامن عشر فقط.
هذا وقد ورد وصْف السوق في كتب الرّحالة الأوروبيين، ففي نهاية القرن الثامن عشر زارها الرّحالة الفرنسي فولني الذي كان قد ساح ثلاث سنوات في لبنان ومصر وبرّ الشام منذ العام 1783 م. وكذلك فعل الرحالة والمبشّر الأميركي إدوارد روبنسون في القرن التاسع عشر، الذي زار فلسطين ولبنان والأقطار المجاورة عام 1838، ثم عاد مرة أخرى عام 1852، وكتب واصفا النبطية: "وصلنا النبطية وهي قرية كبيرة في وادٍ فسيح ... وفي النبطية سوق تجاري يُقام معرض فيه كل اثنين".
وإلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نجد الدكتور شاكر الخوري يصف السوق وأحوالها في كتابه "مجمع المسرات" مقدّرا مرتادي السوق بما يقارب الستة آلاف نسمة، كما أنّ العقود التي تُبرَم فيها بين شارٍ وبائع تتجاوز الخمسين ألفاً وكل هذا يحدث في يوم واحد.
(بائع فخار في سوق النبطية - تصوير علي مزرعاني)
ويرى الباحث والناشط الثقافي علي حسين مزرعاني في كتابه "النبطية في الذاكرة" أن السوق المذكورة كانت تبدأ في صبيحة يوم الأحد حيث يتوافد التجار على الخانات تحضيرا لليوم التالي الذي يستمر إلى عصر الإثنين.
وفي مطلع القرن العشرين، وتحديدا في أواخر أيام الدولة العثمانية، يكشف الباحث علي عبد المنعم شعيب في كتابه "مطالب جبل عامل" أحوال السوق وذلك نقلاً عن جريدة المرج المرجعيونية الصادرة العام 1909، فيقرر بأنها من أكثر الأسواق إجتماعا وتجارة، ويؤمّها الناس من ولاية بيروت وجبل لبنان وأطراف ولاية سوريا ويكاد مورد ارتزاق الأهالي في النبطية والجوار ينحصر فيها. وقد أثقلها العثمانيون بالضرائب التي أرهقت كاهل التجار فيها، مع أن هذه الضرائب لم تكن مسجّلة في قانون ولم تشارك فيها النبطية أية سوق أخرى(...).
ومع مجيء الإحتلال الفرنسي ومن ثم زواله وقيام الدولة اللبنانية بحدودها الحالية، يصف لنا الأستاذ أبو بشار خليل توفيق ترحيني حال السوق في أواسط القرن العشرين، حيث كانت موزعة على أقسام عديدة:
1- سوق اللحم في مدخل البلدة (المنشية)
2- سوق القماش في ساحة آل الفضل
3-سوق الغلة في موقف ساحة مرجعيون
4- سوق الفخار والحدادين والنحاسين في حي الميدان.
وحافظت السوق على أصالة الأدب في جبل عامل، فكان التجار والباعة يأخذون ويعطون بالشعر مع بعضهم البعض، ومما يُروى في هذا المجال، قصة الأديب سلام الراسي الذي حضر إلى النبطية من بيروت قاصداً قريته إبل السقي، وتوجّه للسلام على أحد رفاقه في الحزب الشيوعي في النبطية فمرّ ببائع الخضرة أبي علي أحمد مرعي وسأله:
بكم الخيار لشاعر متزهّدِ
فأجابه من فوره: بالحمد خذ ما تشتهي يا سيدي
فبُهت سلام الراسي وقال: هذا ليس غريباً على حاضرة الأدب والثقافة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها