الجمعة 2024/10/11

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

شربل داغر عن شوقي أبو شقرا: بين الطريف والأليف

الجمعة 2024/10/11
شربل داغر عن شوقي أبو شقرا: بين الطريف والأليف
"موسقة" القصيدة ليست غريبة عمّا سبقَه إليه سعيد عقل في غزلياته
increase حجم الخط decrease
أقرأ في "أخبار" العدد السادس من مجلة "شعر": "شوقي أبو شقرا ظهرتْ له قصائد عديدة في المجلات اللبنانية (...)، يَشتغل بالتدريس في المعاهد الخاصة ببيروت". وهو التعريف الذي صاحبَ، في العدد نفسه، نشرَه لأولى قصائده في المجلة: "إلى أصدقائي"؛ ثم تتابعً النشر: "قرصان" في العدد المزدوج، السابع والثامن، و"أربع قصائد" في العدد الحادي عشر، كما نشرَ في أعدادها الأولى للمجلة ترجمات كثيرة لرامبو (الذي خصّه بتقديم أيضًا) ولوتريامون (بينما كتبً تقديمَه هاني أبي صالح).

إنّ قراءة قصائد أبي شقرا الأولى (مجموعة "أكياس الفقراء"، مثل اللاحقة عليها) تكشف مسارًا متقطّعًا، يتّضح منه أنّ شعريته الخصوصيّة ما تجلّت، وما تأكّدت، إلاّ بعد سنوات على ممارسته الشعر. هذا يصحّ في اتّصاله بالقصيدة التفعيلية في بداياته، ثم انقطاعه عنها إلى القصيدة بالنثر؛ كما يصحّ في شؤونٍ عديدةٍ أخرى. فهذا الشاعر يبدأ "عاديًّا" بالمقارنة مع ما انتهى إليه من تميّز، حتى إنّنا نستطيع القول إنّ توصّله إلى صوته، ولا سيما في مجموعته "حيرتي جالسةٌ تفاحةً على الطاولة"، وقبلها أيضًا، دلالةُ اكتسابٍ ونضجٍ، ما انتهى إليها إلّا مع الوقت والخبرة. كما أقع على "الاعتيادية" ذاتها عند قراءتي لتقديمه رامبو، الذي لا يعدو كونها تعريفًا مبسّطًا، من دون تغوير أو تحليق، بتجربة الشاعر "الملعون"، عدا أنّني لا أتمكّن، في قراءتها، من تبيّن نقاط استدلال تقود إلى شعر أبي شقرا. هل يعني هذا أنّه اتّصل بهذا الشعر اتّصالاً "تقنيًّا"، أو "تعريفيًّا" وحسب، أم أنّ هذه الصلة لم تكن محكمة في ذلك الوقت، بل بعده؟ قراءة ترجمات أبي شقرا لا تقود إلى شعره، إلاّ أنّ قراءة شعره في بداياته تصرّح بعددٍ من العلاقات، ولو الخفيفة، الناتجة عن اتّصاله بالحداثة الفرنسية.

أبو شقرا، مثل أنسي الحاج، يتّصل بإرث العربية اللبنانية الوليد، المؤدية إلى "عصرنتها"، ونزع القدسيّة عنها، وتمكينها من تجريب جديد لإمكانات النثر من أمين نخلة إلى سعيد عقل. إلّا أنّ الشاعر "يَستعمل" هذا الإرث وحسب من دون أن يعرّضه لأهواء متضاربة وتجارب مخلخلة له في بداياته الشعرية: نجده مترفً العبارة، منتقِيها، ملتفتًا إلى طلاوتها، إلى أجراسها الموسيقية، كما عند سعيد عقل. لنقرأ هذا المقطع من قصيدته "عودة محنّقة" ("شعر"، العدد الحادي عشر):

"... ومحنّقًا
أعود خصري قذر
وبين أثوابي يئزّ السفر
أعود، لا معي سنونو لا معي
وكلني حجار
وكلني أدخنة كالحوت:
حو، حو
آت من القفار".

إنّ هذه "الموسقة" للقصيدة ليست غريبة عمّا سبقَه إليه سعيد عقل في غزلياته.
مقاربة قصائد شوقي أبي شقرا (العديدة في مجلة "شعر"، وهو أحدُ أركانها) تُظهر كونها تتلاقى مع غيرها، لكنها مغايرة لها، في الوقت عينه. فبمجرد الاقتراب من سطرها الطباعي نتحقق من كونه متقطعًا، بل شديد القِصَر، ما يعني بناء نحويًّا مخصوصًا؛ وما له ارتدادات إيقاعية لازمة بالضرورة.

إلا أن بناء السطر مفاجئ في ارتكازاته: بين كون السطر المنقطع قصيرًا، وبين اكتماله النحوي في الغالب، وبين خلوصه، في أحوال عديدة، إلى قافية:

"كقشةٍ في عربه
أيامي الصغار
أقفز في الحر
وفي الصيف وفي الغبار.
(...)
لو أستفيق زمنًا، أعود
أسقط مثل قشة
من شفة الوجود" ("رماد الأيام الصغار"، مجلة "شعر"، العدد التاسع، كانون الثاني-يناير 1959).

السطر مقتضَب، ما يتطابق مع نسق نحوي، هو الآخر، يطلب بناء الجملة القصيرة بدوره. أيعني هذا شاغلًا وزنيًّا أم إيقاعيًّا في منطلقه (ما يستدعي القصر والاكتمال في السطر الواحد)؟

الجملة ليست قصيرة وحسب، وإنما تًنزل نزولات هينة، خفيفة، على السطر، ما يعكس شاغلًا وزنيًّا و/أو إيقاعيًّا بالضرورة، أو ما له توقيعات أكيدة. وإذا كان الوزن هو الذي كان يُملي على البناء العروضي شروطًا مسبقة، فإن قصيدة أبي شقرا قد تنبني وفق تلازمٍ وشراكةٍ بين عناصر بنائها، ما يحتاج إلى فحص مزيد. فأي بناء وزني/إيقاعي فيها؟ أهو نسقي؟ أهو مسبق أم لاحق؟

لنعد إلى السطور أعلاه: سنجد بناءً ممكنَ التعيين ومتعثرًا في الوقت عينه. فلو تمَّ العملُ على تقطيع عروضي لها لتحقق الدرسُ من أن السطر يناسب التفعيلات ولا يناسبها. ففي الإمكان التنبه، في السطر الأول، إلى تفعيلة: مفاعلن، وإلى تفعيلة: فَعِلُن في نهاية السطر:
"كقشةٍ في عربه".

كما يمكن التنبه، في السطر الثاني، إلى: فِعْلُن، وإلى: فاعلان.
"أيامي الصغار".
وننتبه، في السطر الثالث، إلى: فَعِلن و: فِعْلُن، على أن بداية السطر غير منتظمة تفعيليًّا:
"أقفز في الحر".
كما يمكن العثور على تفعيلات أو ما يقترب منها من دون أن تكون صحيحة، مثل: فِعْلُن، فَعِلُن، مَفاعِلن وغيرها.

التفعيلات غير مستقيمة، بالتالي، وغير منتظمة، عدا كونها غير واضحة الصلة بالوزن: نجد الساكنَين في نهاية السطر، ما يحيل إلى بحر الرمل، وما يناسب الغناء فيه، لكن الأسطر المختلفة لا تتناسب مع البحر المذكور. هذا ما يثير أسئلة عديدة، متوقفًا عند القافية في هذه القصيدة: الدارس يتحقق من وجود قوافٍ متعددة ومتنوعة في عدد من أسطر القصيدة، وبطريقة جلية: (الصغار – الغبار – النهار- إعصار- أطيابي-  ثيابي – أعود – الوجود – العتيق – الحريق – الطريق – الزمانِ – أسناني). 13 حالة توافق القافية، أي تتابعَها في سطرَين على الأقل؛ وهي نسبة عالية تكاد توازي القافية في قصيدة تفعيلية. والقافية متعددة، متنوعة، كما تتنوع أيضًا في روِيِّها.

هذه القصيدة الأولى في شعر شوقي أبي شقرا، المنشور في مجلة "شعر"، لا تختلف، في سطرها، وتفعيلاتها الممكنة والمتعثرة، وفي نوع القوافي فيها، عمّا يجدُه الدارس في قصائد أخرى له: في قصيدة: "الشارع"، أو: "عاش المطر" وغيرها. ما يستوقف في هذه القصائد – بعيدًا عن تفعيليتها وقافيتها - هو البناء الخفيف للسطر: بناءٌ يخالفُ إرثَ الشعر، مثل راهنه، حيث إن السطر يبدو أقل من صدر بيت عروضي. وهي خفة تحمل حكمًا موسيقاها المتهادية، من دون أن تَضغط القافية عليها عند وقوعها.

هذه الخفة تترافق مع طرافة بادية في موضوعات القصائد لدى أبي شقرا، كما في أبنية المعاني فيها. هذا ما يَظهر في موضوعات غير مألوفة، في خيارات المتكلم في تعيين هويته:

"أسقط مثل قشَّة
من شفة الوجود" (في القصيدة ذاتها أعلاه: "رماد الأيام الصغار").
حتى إن الشارع (وهو عنوان قصيدة لديه) يبدو غريبًا في ألفته:
"قناديله (الشارع) مَتْجَرُ البرغشات".

أو يُشبِّه المطر، في "عاش المطر"، بـ"رجل الإطفاء" الذي له "جزمة طويلة"... الغريب أن أبي شقرا، إذ يصف، أو يتوجه إلى غيره، ينصرف إلى معجم ريفي، ما لا يجده الدارس عند شعراء القصيدة بالنثر، بمن فيهم العرب. عدا أن الاستمداد الريفي قد لا ينسجم بالضرورة مع التشابيه والاستعارات الطريفة والمفاجئة. هذا ما يترافق مع النهر وأنواع الشجر والثمر، أو مع عالم الحيوان في الريف، فيتحدث، في قصيدة "الثعلب"، عنه، وعن "الصراصير" التي "تغني - في شقوق الليل". فيما يَظهر، في غيرها، السنونو والغربان والسنجاب والأوزة والذبابة والحَمل والبطة والديك والذئب وغيرها... كما تشير قصائد إلى معجم مسيحي صريح، عن المذبح، وأحد الشعانين، ويوحنا الحبيب، وعن "أبي في السموات" (في الصلاة المعروفة) وغيرها.

مزجٌ لافتٌ، قد يحيله البعض إلى سوريالية منزلة على عالم الطبيعة، أو قد يَربطه بـ"غنائية القرية" في الأدب والتصوير التشكيلي اللبنانيَّين (في العقود الأولى في القرن العشرين)، إلا أنه مزجٌ مفاجئ خصوصًا في مقترحات القصيدة بالنثر؛ وهو ينوّعُ ويجددُ طلة هذه القصيدة:

"من الدخان نصنع
تسريحة أخرى لنا" ("الذبابة العمياء"، مجلة "شعر"، العدد الثالث عشر، كانون الثاني-يناير 1960).

أو:
"ويمشون تحت المطر
بدون جذور" ("وجه جميلة"، مجلة "شعر"، العدد السابع عشر، كانون الثاني-يناير 1961).

لهذا تبدو قصيدته، "وجه جميلة"، خارجة على قصائده السابقة. فهي قصيدة في المناضلة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، جميلة بوحيرد، "أختي" (كما يتوجه إليها)، على ما تشير إليه غيرُ علامةٍ وإحالةٍ في القصيدة على "الكفاح" و"الجزائر" والأبطال" و"الحرب" وجبال "الأوراس" وغيرها. ويتأكد شاغل الزمن السياسي في قصيدة أخرى لأبي شقرا ("الزنجي"، العدد الثالث عشر، كانون الثاني-يناير 1960).

إذا كان أنسي الحاج جنحَ بالشعر إلى استقصاء العالم الداخلي بل الباطني، ولا سيما باطن الشهوة، فإنّ أبي شقرا جنحً به إلى موضوعات جديدة، ملتفتًا إلى أشخاص وقضايا غير مطروقة في الشعر العربي: أشبه بابن الرومي ولكن في زمن آخر! إلاّ أنّ الجديد فعلاً هو تبنّيه لـ"طرافة" الأشياء في علاقاتها الأليفة، بل اليومية، من خلال عينٍ لا تتوانى عن الاندهاش الطفولي، عن الانبهار بكلّ ما يجري أمامها: نقلُ العادي إلى مراتب الدهشة والغرابة (وهو ما يصله بطرافة السورياليين و"مجانيتهم")، على الرغم من أنّ آثار اتّصاله لم تتضح في حينها، بل بعد وقت، مثل ماءٍ غارَ في التجاويف قبل أن يتفجّر.


(*) مدونة نشرها الشاعر والناقد شربل داغر في صفحته الفايسبوكية


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها