الأحد 2023/09/17

آخر تحديث: 09:17 (بيروت)

"إخوة" لألكسندر جاردين... النّفاذ الى ما لا يقال

"إخوة" لألكسندر جاردين... النّفاذ الى ما لا يقال
رواية كسر المحظور
increase حجم الخط decrease
"وظيفة الأدب أن ينفذَ إلى المناطق التي لا يمكن للخطاب المألوف أن يصل إليها. ومزيّته أن يقول ما لا يُقال في سائر المحاورات الاعتياديّة". اعتمادًا على هذه المُصادَرَة الشاعريّة، صاغ الكاتب الفرنسيّ ألكسندر جاردين (1965- ) رواية "إخْوَة"، (صدرت مؤخرًا عن دار ألبان-ميشال) ليسرد من خلالها القصّة الرهيبة لأخيه غير الشقيق، إيمانويل، الذي وضع حدًّا لحياته بطريقة فَظيعة حين كان في عنفوان الشباب. ففي الحادي عشر من أكتوبر سنة 1993، صوّب بندقيّة إلى فَمه وأطلق رَصاصةً لم تُخطئ هدفها.

جاء قرار الانتحار إثر سلسلة من الإخفاقات ودَفق من المشاعر الجيّاشة التي كانت تسير في كلّ الاتجاهات بلا أدنى ضابطٍ. كان هذا الأخ على يقين من أنّ الحياة ليست "المحلَّ الملائم" لسَوْرَة وجدانه ولا لاندفاعات جَسَده. ضاقت الدّنيا بما يفور داخلَه وعجزت عن احتواء ما يعيشه من غَليانٍ. لذلك قرّر الانصراف، بلا عودة. وقبل ذلك، مارس هذا الشاب الغُلوّ في كلّ شيء: في الدُّعابة والانحراف والملاذّ والمغامرات وقوفًا على حافّة المحظور الأخير، وصل به الحدّ إلى ممارسة الجنس مع زوجة أبيه الرسميّة، بعد وفاة هذا الأخير.

يندرج هذا النصّ في ضربٍ من السّيرة الذاتيّة المُتَخَيَّلة، القائمة على مبدأ "الاعتراف"، إذ يؤكد  جاردين أنه أراد، أخيرًا، أن يكشف جانبًا من أسراره العميقة، الثاوية في ثنايا لا-وَعْيه المُظلمة، بل الأكثر سوادًا، عبر استعادة سيرة هذا الأخ الذي ارتبط به في مرحلتيْ الطفولة والشباب وأن يفهم سلسلة العوامل التي أدّت به إلى ارتكاب الجُرْم الأخطر. ولذلك، تضمّن الكتابُ عديد النوادر والقصص الصّغيرة حول مراهقة هذيْن الأخوَيْن. قصص مثيرةٌ ببراءتها وبراعتها، يسترجعها الكاتب رابطًا بين الأسباب والتداعيات على أمل أن يلامس العُقدة الأصليّة التي أدّت به إلى اللحظة الفاصلة بين الحياة والانتحار.

وقد صيغَ هذا الكتاب الذي يمتدّ على قرابة مائة وثمانين صفحة، في لغة شعريّة، حبلى بالصّور والاستعارات وسائر أوجُه التّلاعب باللغة مع ثراء لافتٍ في المعجم والمفردات طيَّ كتابةٍ تَمزج بين الدعابة والجدّ، بين الروح التراجديّة والسّخرية. الكلّ في أسلوب مشوِّق قاتم، يزعج القناعات ويفتح عُلبَة الطابوهات لتطيرَ منها كائنات مرعبة. ومن رُعْبها، ثمّة فقراتٌ لا يمكن أن تُقال على رؤوس الملأ، وليس لها من مكانٍ سوى الوَرَق. لذلك أكّد جاردين أنْ لا مجال للتصريح بالعديد من الوقائع في وسائل الإعلام وأنَّ حيّزها الوحيد هو الصّحيفة.

بالفعل، تنطوي هذه السّيرة على أحداث لا تخدشُ الحياءَ فقط، وإنّما تكسر المحظورات الكبرى التي أقامتها المجتمعات البشريّة، مثل سِفاح الأقارب والعلاقات الجنسيّة بين الإخوة، حيث يروي الكاتب أنّه تعرّض للاغتصاب من قبل أخيه إيمانيول هذا لمّا كان في سنّ العاشرة. كان ذلك مجرّد طيش أطفال، لكنّه زرَعَ بذورَ "عارٍ دائم" لم يُمحَ من ذاكرة الكاتب إلا بفضل هذا السّرد التّطهيري، كما أرسى بوادر انحراف لدى الجاني الصغير، انتهت به إلى الموت.

النازية
وليس هذا النصّ، بما هو بورتريه عن شعريّة هذه التناقضات ومآلاتها الكارثيّة، بالمحاولة الأولى التي يصوغها صاحبُ "السَّحَرَة" (2022) لتَعرية فضائح أسْرته، ذات التاريخ العريق في الفساد. ففي كتابه "أناس طيّبونَ" (2011)، سَبقت له العودة إلى سيرة جَدّه الذي كان عميلاً للنازية وشارك في حكومة الرئيس فيشي المتواطئة مع النظام الهتلري إبّان الاحتلال الألماني ليتورّط في جرائم عنصريّة. وقيل ذلك، رسم ملامحَ والده بكل ما يحمل من تناقضاتٍ وما ارتكبه من فظاعات في رواية "زوبيال" (1997).

فكأنَّ الماضي العائلي المُثْقَلَ بالفضائح والأخطاء الخطيرة هو ما أمدّ الكاتبَ بمعين لا ينضب من الصور والشّخصيات، طَوَّعه بريشته وانتقى ما شاء من عناصره، ليس فقط لتصفية حساباته مع هذا الماضي الذي يلاحقه كلعنةٍ، بل لملامسة البُعد الشعري-الإنسانيّ، بما هو تأليفة بين الخير والشرّ، بين الحُلم والانتهازيّة، هو عقدة الإنسان في ضعفه وتقادره، يلتقطها قلمُه ليصوَّرَها في لغة قاطعة.  

وأمّا الرّسالة الضمنيّة التي أراد صاحب "القلب المُزدوج" (2018) إيصالَها إلى القارئ فهي ضرورة التحلّي بالمسؤوليّة والانتباه. فوَراء هذه الاستعادة الأدبيّة لسيرة إيمانويل المجنونة ثمّة مضمون يحثّ على التبّصّر: أجيال اليوم ليست منتبهةً بالقدر الكافي لبعضها البعض. ويمكن للأزمات الصّغرى أن تتحوّل إلى مصائب كارثيّة. ولذلك يدعو جاردين الآباء والمؤسسات والجمعيّات للانتباه إلى بوادر الانحراف الأولى حتى تُتداركَ الضحيّة في الوقت المناسب.

وهكذا، فالأدب الذي نسجه هنا جاردين هو ارتماء في مستنقعات المحظور والفضائح والانحرافات والاستمداد منها، إذ لا مجال للتعبير عن هذه العناصر خارج نطاق الفنّ الحرّ والسَّرْد الخلاّق. فما يقوم به هو إعادة تعريفٍ لوَظيفة الأدب، تقطع تمامًا مع ما كان قد حدّده جون-بول سارتر (1905-1980) قبل عقود، حين ربط الأدب بالالتزام المثقف العضويّ بقضايا مجتمعه. هنا، الأدب غَوصٌ في المحظور وقول ما لا يَقدر الكلام العاديّ على قوله. فيه كلّ شيءٍ مباح. أليس الفنُّ حقلَ الخيال والتلاعب والتعرية وحتى الكذب؟ أليس هو مجالَ الاعتراف ومواجهة الذات بعُقَدها وماضيها، رُعبها وأحلامها؟ وما من جنسٍ أقدر من الرواية على كشف المستور وخرق المَمنوع.  

لكنْ، ما الذي يتحصّل لنا، في النهاية، حين نُمعن النّظر في هذه السّيرة الذاتيّة؟ مَشاهدُ إثارة، جلّها يتّصل بالاعتداءات الجنسيّة و"الشذوذ" والغرابة. انحرافات ناتجة عن الفردانيّة المطلقة التي ابتلعت المجتمعات الغربيّة إثر الحرب العالميّة الثانية والتي فكّكَ مظاهرَها الفيلسوف الألماني هابرماز (وُلد 18 حزيران 1929)، في نقده للإنسان وحيد البعد، وهو ذات ما يرسمه جاردين: حِبكة لا تتعدّى أن تكون مسيرة شاب مهووسٍ متوحّد. وهو ما يطرح قضيّة صدقيّة الأقوال السّرديّة الواردة في هذه السيرة الذاتيّة ومدى تطابقها مع الواقع التاريخي. لا شكّ أنّ الرجل يتكئ على هذا الواقع، لكنّه أضفى عليه صبغةً ذاتيّة وكساه من عبقريّة اللغة الفرنسيّة وذاكراتها الدلاليّة، فضلاً عن نظرته واختياراته.

من جهة ثانية، تطرح هذه الكتابة سؤال الحدود القيميّة في الأدب. فهل يجوز للرّاوي أن يخترقها جميعًا، باعتبار الفنّ حقلَ الحرّيّة المطلقة من كل قيدٍ؟ يؤكّدُ جاردين أنَّ الحقيقة الوحيدة هي الرؤية التي يصوغها الفنّ. ولا أحد يَطلبُ منه أن يتوافق مع أيّ اعتبار خارجيّ. وأما عن البعد الأخلاقي، فقد اجترح جاردين تعريفًا جديدًا للأدب ووظيفته، إمّا أن نقبله أو أن نَرفضه. بالنسبة إليه، يظل الأدب المحلّ الوحيد الذي يُسمح فيه بقول ما لا يقال خارجًا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها