السبت 2023/12/09

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

مُتسوّلو باريس: مُدوّنة الاستجداء المَنسيّة

مُتسوّلو باريس: مُدوّنة الاستجداء المَنسيّة
متسولو باريس
increase حجم الخط decrease
في قطارات باريس: حكايات المتسوّلين ترافقنا
حين يشتدّ البرد في العاصمة الفرنسيّة، تزداد فظاعة الفقر والتهميش، فيفرّ المُعوزون إلى قطارات الأنفاق لينعموا بشيءٍ من دفئها وهي تَمخرُ تجاويف العاصمة باريس، وفي عرباتها التي ترتجّ بالركاب المتعجّلين نسمعهم يُبدعون في الاستجداء بنصوص تستحقّ أن نَقف عندها، لأنّها تشكل مدوّنة متكاملة موضوعها ألسنيّ-ثقافي بامتياز، لكنّه لم يحظ باهتمام كافٍ، كأنما يخضع هو الآخر إلى منطق التّهميش الذي يطاول هؤلاء المتسولين وتاريخهم وحضورهم، لا سيما عند اشتداد الأزمات، كهذه التي نمرّ بها في أيّامنا بسبب الحرب الروسية-الأكرانية والتضخّم الهائل والانخفاض المفاجئ لدرجات الحرارة. 

يتمثل الأمر في مدوّنة شفوية ضائعة، لا يُلتفت إليها نظرًا لطابعها المُرتجل والشفويّ المتفلّت، وهي مجموعة ملفوظات ونداءات وحتى سرديّات يوجّهها متسولو قطارات الأنفاق بباريس إلى الركاب الذي يتغيرون من محطّة إلى أخرى، حيث لا تخلو هذه الفضاءات المتنقّلة من طالبي المساعدة الذين يستغلون الفترة الزمنيّة التي تستغرقها المسافة بين المحطات، وهي لا تتجاوز الدقيقتيْن غالباً، من أجل إلقاء كلمة يستعطفون بها قلوب الركّاب. 

وقد يؤدي تحليل هذه النصوص، بعد تجميعها وترتيبها، إلى ملاحظة وجود قانون يشبه ما سمّاه النّاقد الروسي فرانز بروب، في دراسته عن الأساطير، "بالوظائف الثابتة"، ومنها التأكيد على عدم إزعاج المسافرين واضطرار المعدومين إلى التسوّل حتى لا يرتكبوا محظورًا أخطر كالسرقة والاتجار بالمخدّرات، ومنها استخدام النقود المتحصّل عليها فقط من أجل الغذاء والحفاظ على نظافته وكرامته. 

وهذا نموذج من الخطاب الذي يمكن أن نستمع إليه، سجّلناه في إحدى قطارات المترو الباريسي: "مرحبًا بكم، أنا آسفٌ لإزعاجكم، اسمي جاك، عمري أربعون عامًّا، عاطلٌ عَن العَمل منذ سنتين، إن تَوجهت إليكم اليوم فلكي أصونَ كرامتي وأحظى بليلة دافئة في هذا البرد القارس". وهكذا، تَتوالى المقولات والنصوص متشابهةً متقاربةً. 

وقد ركّزت بعض الدراسات السوسيولوجيّة على الفروق بين التسول في الطرق وداخل قطارات المترو، حيث تُحكم بفاصل زمني قصير هو المدة اللازمة للانتقال من محطّة إلى التي تليها، مما يجعل الخطاب وجيزًا، يقال على نبرة الاستعطاف أحياناً والتوعية والتحسيس أحيانًا أخرى، مع التركيز على بعض الصور والوظائف ولا سيما مبدأ "الكرامة". ولذا، تختلف عن التسول في الأوساط الحضرية، مثل الأحياء والأسواق وشوارع المدن المكتظة، التي تسمح بمرئيّة أطول للمتسول وبتعامل مختلف نظرًا إلى المسافة التي تفصل الناس عن، على خلاف تواجدهم في المترو الذي يخلق التصاقا أكبر ونوعًا من التقارب الجسدي المفروض مما يجعل "مُتلقّي الرسالة" في حالة أكثر مباشَرة. وقد تقتضي مساحة المترو الضيقة من المتسول حركة في اتجاه الركاب عوض الاستمرار في حالة الانتظار في نقطة ثابتة.


دعاء إسلامي بالخير في فضاء العلمانيّة  
ومما يتناهى إلى السمع أيضًا، بين الفينة والأخرى، دعواتٌ بالخير، ذات طابع إسلاميّ محض، تُطلق بفصيح العربيّة وتتطاير أصداؤها مع هزّات المترو وعلى أرصفة القطارات المتسارعة، يهتف بها متسولون من أصول عربيّة وإسلاميّة من المغرب العربيّ أو من أوروبّا الشرقيّة، فيكون لها صدًى غريباً في الفضاء العام، الفضاء العلماني الذي تحرص السلطات الفرنسيّة دون هوادة على تركه محايدًا، لا يحمل أية سمة انتماء ديني أو طائفيّ. ولا أحد يدري إن كان هؤلاء المتسولون مسلمين حقّا أم إنهم تعلموا هذه الصيغ الدعائيّة التي ينطقونها برطانتهم الأجنبيّة من أجل التعامل مع الجمهور المسلم الذي يمكن أن يكون أكثر حساسيّة لمثل هذه الخطابات وبالتالي أكثر سخاء في تقديم ما سيعتبرونه "صدقة" تذهب إلى جيب مسكين مؤمنٍ، لا الى جوف متسول "كافر"، قد يستخدمها لشراء في الخمور والمخدّرات. 

ولذلك يمكن أن نثير سؤال نسبة المتسولين من أصول عربية وهو ما يتطلب دراسات إحصائية. والظاهر أنّ هذه النسبة قليلة، بسبب الفضاءات البديلة التي توفرها مدينة باريس، مثل المساجد والمصليات، إلى جانب المراكز العربية التي تكون قِبلة هؤلاء، ولعلّ قِلَّتَها تعود إلى الأبنية الاجتماعيّة والرمزيّة، مثل نظام القرابة والتّضامن بين أبناء البلد الواحد الذي يحفظهم من مذلة الاستجداء. 

ولا يسعنا هنا إلا أن نستذكر الفصول الشيّقة التي صاغها قلم أبي عَمرو الجاحظ، الأديب السّاخر، لوصف حيل المُكدين، وهو الاسم التراثيّ الذي يطلق على مَن كان يمارس عمليه "الإكداء" أيْ التسوّل، إذ تمكن صاحب "البخلاء" من وصف الحيل التي يلجأ إليها هؤلاء والأسماء التي يطلقونها على مختلف فئاتهم بحسب درجات العاهات المختَلَقَة التي ينسبونها إلى أنفسهم وهم يتظاهرون بالعمى والعَرَج في شوارع البصرة وبغداد. كما أنه لم يغفل تحليل الخطاب الذي يسوقه هؤلاء للتأثير في السامع مما يعدّ إرهاصًا للدراسات الاثنوجرافية الخاصة بهذه الفئة.  

تسوّل على أثير الموسيقى والصور
وقد يلجأ بعض المتسولين إلى تأليف بعض المقاطع الملحّنة التي ينشدونها، فيكون مقطع التسوّل بمثابة فاصل موسيقيّ يعتمد على الإيقاع النغمي وتماثل الفواصل والأسجاع من أجل تأثير أعمق في نفسيّة المتلقين. وقد يلجأون إلى بعض الآلات الموسيقيّة مثل الغيتار أو الأكورديون لمصاحبة ما يُلقونه من جُمل في مسعىً لإضفاء بُعدٍ فنّي جمالي على هذه العمليّة التي تكاثر عدد القائمين بها، كثرةً أدّت إلى الابتكار في طرق تأديتها. وقد يلجأ الآخرون إلى بيع أدلّة سياحيّة صغيرة أو بطاقات وطوابع بريديّة عن معالم مدينة باريس، في محاولة لإخراج ممارساتهم من دائرة الاستعطاء المنبوذ، إلى إطار التجارة المحمودة، مع أنهم يُؤكّدون، في نصّهم الشفويّ، أنّ مَن لا يريد شراء دليل أو بطاقة يمكنه التصدّق بما تيسّر. 

ومن نتائج التضخم الذي ضرب الجميع في مقتل، اضطرّ هؤلاء إلى ترفيع المبالغ المطلوبة، فبعد الانتقال من عُملة الفرنك إلى اليورو، العام 2002 ، أصبح المتسوّلون يطالبون بيورو عوضاً عن فرنك واحدٍ، مع أن قيمة هذا الأخير هي فقط سدس اليورو، ما يعني الترفيع ست مرات في المبلغ. كما لم يعودوا يقنعون ببعض السنتيمات.

مُفارقات التسوّل والديبلوماسية   
إنّ صورة المتسوّلين وهم يملأون قطارات باريس بهيئة رثّة وصيغٍ مكرورة، تتعارض مع الفكرة النمطيّة التي يمتلكها العالَم عن مدينة الأنوار، فليست كلها سحرًا وحبًّا ورومانسيّة، ولا هي مركز ازدهار مالي لا-محدود، بل فيها من مظاهر البؤس والمعاناة، ولا سيما في فصل الشتاء، ما يدعو الى التساؤل عن أسباب عدم تخطيط الحكومات المتعاقبة لمشاريع تجتث هذه الظاهرة البائسة وتوفّر مساعدات كريمة للفقراء الذين لم تكُفّ أعدادهم عن الارتفاع في ظل اهتراء مستمر للقارة العجوز ولسياساتها الاجتماعيّة المرتبكة. أليس من الأولى توفير المساعدات التي تُرسل إلى مناطق النزاع الخارجيّة لتوظيفها في تحسين أوضاع الداخل والتخفيض من نسبة الفقر الذي أدمت أنيابُه جسد الأمّة الرخو؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها