الخميس 2023/12/21

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

عندما ألقى لطفي السيد قصة حياته...في الجامعة الأميركية ببيروت

الخميس 2023/12/21
عندما ألقى لطفي السيد قصة حياته...في الجامعة الأميركية ببيروت
لطفي السيد وطه حسين
increase حجم الخط decrease
اشتهر الكاتب لطفي السيّد (1872-1963) بِمواقفه الليبراليّة إزاء قضايا اللغة والثّقافة والتّراث الديني، ومنها دفاعُه عن استخدام الدّارجة عوضًا عن الفصحى مع أنه كان رئيس مجمع اللغة العربيّة بمصر. وسنسعى إلى فهم هذه "المفارقة" من خلال إعادة قراءة سيرته الذاتيّة الموسومة: "قصّة حياتي" التي أصدرها العام 1946، في استعادةٍ لأهمّ الأحداث المُشكِّلة لمساره في السّياسة والتّعليم والأخلاق والفكر، علمًا وأنّه ينتمي إلى جيل النهضة الثانية، مع رفاقه طه حسين والعقّاد وأحمد أمين وغيرهم.

استعرض السيّد في هذه السيرة مراحل حياته الأساسيّة، من دون تهويلٍ ولا تزيين، وقدّمها مادّةً خام لمن أراد التوسّع في تفاصيلها وعواملها. ولم يقحم طيّها أحكامًا تقييميّة وإنما اكتفى بسرد ذكرياته وفق تسلسلها الزمنيّ، مخصصًا لكل طورٍ منها مقطعًا، فتتالت الأجزاء في شكل فصول قصيرة بلغ عددها خمسة عشر، والأخير منها أقرب إلى خلاصة فلسفيّة حول الأخلاق وأهم المبادئ التي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق السلام العالميّ، بعيد الحرب العالمية الثانية. وقد كان هذا الجزء في الأصل محاضرة ألقاها في الجامعة الأميركية ببيروت (1943).

وفي آخر النصّ، إحالة مفتاحيّة تشير إلى أنّ "قصّة الحياة" هذه قد أملاها صاحبُها على أحدهم، وهو ما يفسّر ربما طابعها الشفوي وما تخللها من نوادر صيغت في أسلوبٍ سلسٍ، لا يخلو من الفكاهة المصريّة ويتوجّه إلى كل القرّاء على اختلاف مستوياتهم التعليميّة.

ومع ذلك، تبقى هذه السيرة سياسيّة بالأساس، لأنها تروي مَرحلة الانتقال من خضوع مصر إلى الدّولة العثمانية نحو تبنّي النظام الملكيّ ثم الجمهوريّ، في ظلّ نفوذ عسكريّ لن ينفكّ عن التّزايد حتى وصل إلى ما نعرفه اليوم. ولم يكن السّيد فقط بين مَن عاصر هذا الانتقال في الممارسة السياسيّة والثقافيّة، بل أسهم فيه وصنعه وعايشه من الداخل عندما كان مبعوث الخديوي الخاصّ إلى إسطنبول وأبرز روّاد حزب "الوفد" الناشطين فيه، ثم رئيس الجامعة.

فهو يروي ما عاشه من تقلّبات أثناء إنشاء الجامعة المصريّة من طور التصوّر والدّعاية فإلى الإنجاز والتنفيذ وصولاً إلى الإكمال، وما شهدته هذه الأطوار من تشابك بين السّلطة السياسيّة والمحيط الجامعي، حيث تولّى العمادة واستقال منها مرّات عديدة بسبب تدخّل الحكومة في عملها. وقد اشتهر خصوصًا باستقالته التي أعلنها بسبب فصل طه حسين التعسّفي إثر صدور كتابه عن "الشعر الجاهلي" (1926).

ومن طريف هذه التقلبات، سَنُّ الاختلاط بين الجنسيْن على مقاعد الدراسة "صدفةً"، وإلا ربّما بقيت الجامعة المصريّة غير مختلطة إلى حدّ اليوم، ذلك أنه تمّ تسجيل أولى الحائزات شهادة البكالوريا بصمتٍ وكتمان، ثم توالت دَفعات الطالبات في الالتحاق بالجامعة، قبل أن يتفطن المُنكرون من رجال الدّين إلى "استفحال" هذه الظاهرة ويثيروا ضجّة كبرى. لكن أحداً لم يَستجب لهم بحكم "التطوّر الاجتماعي الذي لا يعود إلى الوراء".

واستعاد السيد ترجمته لأرسطو التي أنجزها لتكون تمهيدًا لنَهضة من خلال إحياء التصوّرات الفلسفيّة عن السّياسة والأخلاق بمعناها العقليّ، حتى يغيّر الذهنيّة الاجتماعيّة ويحرّرها من الخرافة ومن اهتراء الأشكال التعبيريّة، من أجل إقامة دولة حديثة تقوم على العقلانيّة والديموقراطية والتكافل الاجتماعي.

كما تضمّنت هذه السّيرة شهادات حيّة عن التحوّلات البنيوية التي طرأت على الهويّة، ومن ذلك شهاداته في أهم رجالات الفكر والسياسة واللغة الذين عاصروه، وعلى رأسهم سعد زغلول وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم كثير. ومن أطرفها الرّثاء الذي كتبه تأبينًا للأديب الروسي تولستوي العام 1910.

وقد شدّد السيّد على تصوير وَلَعه، يافعًا وكهلاً، بالضاد ونصوصها الأدبيّة، مستعيدًا ذكريات تأسيس أول مجمع للغة العربيّة، العام 1916 والذي لم تتجاوز حياتُه سنة واحدةً، قُضّيت كلها في النقاش حول جواز التعريب من الناحية الفقهيّة، لأنّ غالب الأعضاء كانوا من فقهاء الأزهر وعلمائه التقليديين.

وأمّا الحقبة التاريخيّة التي تدور حولها هذه السّيرة، فهي العقدان الأوّلان من القرن الماضي اللذان يُشكلان المَرحلة المفصليّة التي سبقت الحرب العالمية (1914-1918) والتي رافقت نشأةَ الوعي القومي- العربي، والحسّ الوطني المصريّ الذي ناضل من أجله من دون امتلاك المصطلحات الدّقيقة للتعبير عنه.

وهكذا، تساعد العودة إلى هذه العوامل مجتمعةً في فهم دعوته إلى عصرنة الفُصحى وتبسيط قواعدها لنشر المعارف، العلميّة والفلسفيّة، عبر وسيط لساني في متناول الجميع أي: العامية المصريّة، وهذا ما يؤول إلى تفصيح هذه الأخيرة ومدّ الجُسور بينها وبين المُتكلمين بها. وعليه، فلا تناقضَ جوهريًّا بين هذه الدعوة ومشروعه التّحديثيّ للضاد، لأنّ الهدف الحقيقي هو إنزال الفصحى من بُرجها العاجيّ إلى دوائر الخطاب داخل كلّ فئات الشّعب.

وقد تُعلل هذه الدعوة بالرغبة في التقريب بين اللغة والثقافة والتاريخ، قطعًا مع القوالب الجافة التي لا تعبّر عن مشاعر الناس الحقيقيّة، وذلك ضمن التصور الرومانسي التحرري للغة والمجتمع الذي ساد في العقود الأولى من القرن الماضي. ونتذكّر هنا أنّ صيغَ الكلام التي كانت سائدة آنذاك، سواء في الأوساط الأزهريّة أو الجامعيّة، تطغى عليها الكلاسيكية التي كان مصطفى صادق الرافعي (1880-1937) من أبرز وجوهها. فهذه الدعوة إذن هي تمرّد على التكلف والاصطناع أكثر منها تصوّراً نسقيّاً، تُفهم في سياقها التاريخي الذي رُسمت معالمُه في هذا "القصّة".

وبهذا ندرك أنّ الدّعوة إلى استخدام العامية المصرية فُهمت خَطَأ، واستُغلتْ لغير أغراضها الأصليّة، التي هي تطوير الضّاد وإخراجها من قُمقمها المتحجّر، فضلاً عن تقريب الشقة بينها وبين لغة الاستخدام اليوميّ الذي تزامن مع انبثاق شعور جديد، أطلق عليه "الحسّ الوطني".

وهكذا، فـ"قصة الحياة" هذه وقفاتٌ تسترجع ما مرّ به الوعي المصريّ من قطائع وتحوّلات في المعنى، إلى جانب تضمّنها سردياتٍ لمختلف الرحلات التي قام بها السّيد إلى باريس ولندن والمدينة المنورة وإسطنبول... عاكسةً لطور من أطوار النهضة العربيّة في تردّدها وحيرتها، في اندفاعها وانحسارها، في تمرّدها رغم معرفتها بكنوز التّراث العربيّ الإسلامي، في تردّدها في تصوّر العلاقات التي يجب أن تسود مع الأشكال التعبيريّة، بحسب تسميه عبد الله العرويّ، ومنها لغة الخطاب.

الآن، وبعد مضيّ أكثر من ثمانين عامًا على ظهور هذه الدعوة نلاحظ صمود العلاقة التفاعليّة بين السجلّ الفَصيح وصِنْوه الدّارج، وهو عين التفاعل الذي دعا إليه السيد، لكن ربما أخطأ العبارة أو جمح به المنزع التحرري. فقد أثبتت حركة التاريخ رسوخ الفصحى في وجدان الناس وأنها جزءٌ أصيلٌ من "الحسّ الوطني"، لا تنافيه ولا ينافيها، بل تدعمُه وتغذّيه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها