الخميس 2023/11/09

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

"أن يعتني بها" الفائزة بغونكور: من ركام الصخور...يعلو الفنّ

الخميس 2023/11/09
"أن يعتني بها" الفائزة بغونكور: من ركام الصخور...يعلو الفنّ
جان باتيست أندريا
increase حجم الخط decrease
كان لا بد من إجراء أربعة عشر دورًا قبل أن يتّفق أعضاء لجنة "غونكور"، أفخم هيئة أدبيّة فرنسية، على اختيار جان-باتيست أندريا للفوز بجائزة السنة. وبعد مماحكات طويلة، استقرّت كلمتهم على تتويج روايته الجديدة "أن يَسهَرَ عليها" أو "أن يعتني بها" (العنوان الأصليّ: (Veiller sur elle وقد علل هؤلاء الأعضاء اختيارَهم بالسّحر الذي مارسته هذه الرواية ذات الطابع التاريخيّ-العاطفي وبعمق أسلوبها الذي متح من المصادر الكلاسيكيّة فأهدى بناء متشابكًا متناغمًا. 


صدرت هذه الرواية منذ شهريْن عن دار "إكنوكلاست"، دار نشر صغيرة مقارنةً مع نظيراتها الأخرى مثل "غاليمار" و"سوي". ومع ذلك، تمكّنت من الفوز بأفخم الجوائز بعدما تنافست مع ثلاث روايات أخرى ضمن اللائحة القصيرة: "النّمر الحزين" لنيج سينو، "حُمُص" لكسبار كونتين و"سارة، سوزان والكاتب" لإيريك رينهارد. كما سبق لها أن فازت، خلال هذا الموسم الأدبي (2023) بجائزة "فناك". 

تعود حبكةُ القصّة إلى أجواء إيطاليا، البلد الأصليّ للكاتب، في العقود الأولى من القرن العشرين وتمتدّ أحداثُها إلى نهايته، جيئةً وذهابًا. وتتركّز على سرد ما عاناه "ميمو" من قسوة الأقدار، إذ نشأ يتيمًا فقيرًا وأودِع لدى نحّات مغمور ليعلّمه فنّ الحفر في الحجر، عساه يجد عملاً في كسر الصخور، إلا أنّ عبقريّة هذا الصبيّ تفتّقت عن بديع الصَّنعة فأبْرَزها في تمثال رائع مثل تلك التماثيل التي نراها مبثوثةً في كنائس إيطاليا ومَسارحها ومَدارجها.

حس التمرّد
وفي المقابل، تكرّم القدر على وريثة عائلة غنيّة، فيولا ارسيني التي نشأت في قصرٍ بالبندقية. إلا أنّ طموحَها، وربّما حسّ التمرّد لديها، دَفَعها إلى رفض التقاليد وكسرها. ولم يكن واردًا البتّة أن تلتقي هاتان الشّخصيّتان وهما على طرفي نقيضٍ، إلا أنّهما تعارفا وتحابّا، والعهد أن لا يفترقا مهما حصل. وككلّ قصة حبّ مستحيلة، لم يكن سهلا أن يتلاقيا كما يحلو لهما بسبب القيود، كما لم يعد بالإمكان الافتراق. في تلك الأثناء، تدخل إيطاليا مرحلة الفاشية المظلمة فينتقم "ميمو" من القدر ويغامر بخسارة حبيبته، حيث طلب منه موسيليني نحت تمثال إلا أنّ "ميمو" فطنَ إلى خَطَئه فَحوَّلَه عنوانًا على التمرّد ضد القمع. وهكذا، تتواصل فصول الكتاب، فيما يقارب الستمئة صفحة، بناءً محكمًا، يحتفي بالحب في زمن الفاشية والأشواق ضمن متاهات الديكتاتوريّة. 

وتكمن خصوصية هذا النص أنه انبثق من رَحم السّينما والصورة، حيث كان ج.ب.أندريا يكتب سيناريوهات الأفلام طيلة عشرين سنة، مأخوذًا بآليات الحوار والتبئير والعلاقات التي تنعقد بين الشخصيّات، فإذا به ينتقل، منذ 2017، إلى الكتابة الروائيّة ليدشّنَ عهدًا جديدًا في التعامل مع الكلمة. لن تكون الحوارات مسموعةً وأبطالها مَرئيّين على الشاشة، وإنما لوحاتٍ مقروءة، عمادها وصف واقعي دقيق يَمتَحُ من أدب إيميل زولا، يجريها على لسان شخصيّاتٍ حيّة معقدة، مثل "ميمو" النحات، "فيولا" عشيقته والتمثال الذي أظهره من ركام الحَجر وسوّاه روحًا. 

حياة ميمو
يقص كلّ من هؤلاء الثلاثة، وكلّهم مفتقر إلى الحبّ والاستماع، قصصَ المعاناة والهَجر والحبّ والكراهيّة في أسلوب غنائيّ قريبٍ من انسيابية الشعر والترتيل. ففي الرواية، تتشابك القصّتان الرئيستان: الأولى حياة "ميمو"، هذا الفقير الذي عانى قسوة الأقدار حتى التقى بحبيبته "فيولا"، والثانية: قصة التمثال الذي نحته بيدَيْه الساحرتيْن فإذا به يستحيل شخصيّة لها قوة السّحر، تقوم بتنويم كلّ مَن ينظر إليها. وهنا، يلتحم ميمو بــ"توأمه الكوني" ويتعلّم منه التحاور مع الموتى واسترجاع الماضي، فيعيد زيارة أحداث القرن العشرين ويستحضر منعطفاته وحروبه الفظيعة وخصوصًا إثر صعود الأنظمة الفاشية، إذ انتظم هذا السّرد ضمن استعارة النّحات الذي يُزيل كثافة الأحجار حتى يصل إلى الشكل الأصلي، أي إلى النّواة الأوليّة التي يمكن أن يتقاسمها الجميع، مثل قاع مشتركٍ. ويصبح عمل الأديب حفرًا لإزالة صَلابَة الرواسب الكثيفة التي تَعلق بالذاكرة والوجدان، أكان فرديًّا أو جماعيّا، حتى يصل إلى أصل النشأة الكونية الذي تتكئ عليه البشريّة وإليها تستند.

ولا شكّ أنّ سرد ذكريات الطفولة المُعذّبة والعودة إلى أعماق الوجود وتجاويف الذاكرة، كحفر في الصّخر، هي ما يميز كافة شخصيات ج. ب اندريا: فقد سبق له، في قصته الأولى "ملكتي" (2017) أن صوّرَ هروب "شال" إلى الجبل ليعيش حياة النسّاك. وبحثت شخصيّة "شان" في "مليون سنة ويوم" (2019) عن حلم طفولته. في "شيطان وأولياء" (2021) روى قصّة رجل سبعينيّ يعزف البيانو في محطة قطار وحيدًا، يستعيد ذكرياتِ طفولته. وهكذا، فالسرد عنده عود إلى جذور الطفولة وبحث في بداياتها من تحت الأكوام. أن نحكي هو "أن نعتَني" بتلك الذاكرة البريئة المنسوجة أحلامًا وعذابًا، رؤًى ومخاوف، تتّشح بوشاح الأدبيّة فتستحيل ألقًا وضياءً. 

فن النحت
وهكذا يلتقي فنّ النحت مع فنّ الكتابة، وكلاهما يصوغ من صمّ الأحجار والكَلمات فنًّا معجِبًا، ولا نملك هنا إلا أن نستحضر مبدأ النّظم لدى عبد القاهر الجرجاني الذي كان يشبِّهُ صناعة الأدب بعمل النقر والنحت والتفويف والتحبير حتى يصل الأديب إلى التناغم المطلق في لوحته النهائية، وقوله، نقلاً عن الجاحظ: "وَجدتُ الفرزدَقَ يَنحِت من صخر". 

وأثناء ذلك، يحتفي ج.ب.أندريا بفعل الخَلق والابتكار، مشيدًا بعمل النحت الذي يخرج من تحت الرّكام الحجري شكلاً بديعًا، يُمتَشَق في فضائه بتناسق تام، مثل التمثال الذي سوّاه بطله "ميمو" فسحَر كلَّ مَن تَمَلاّه، مما دعا الفاتيكان، رمز السلطة الدينيّة، إلى تحرير مئات الصفحات لتعليل الخلق فعلاً،  لكنّه فشل لأنّ الفن لا ينحصر في مقولات اللغة ولا تُدرك مداه العقولَ. كما يصبح هذا التمثال رمزًا للمقاومة ورفض الهيمنة الغاشمة للقوة. 

إلا أنّ أجواء هذه الرواية بثيماتها ومضمونها الخفي توحي بمناخٍ "يميني" ذي مرجعيّة مسيحيّة، لا يتحرّج من التصريح بعقائده وشعائره، وهو ما يعني وجود جمهور مشابهٍ، يهوى مثل هذه العوالم الرمزيّة، أي قارئ مؤمن يبحث في الرواية عن دعمٍ لعقائده ومشاعره الروحيّة ويرى في الحبّ الذي ينبغي أن يملأ القلوب أداة المقاومة وصيغة الوجود في العالَم. كما أنّ نقد الظلم والدكتاتوريّة لا يجري حسب المقولات الثوريّة (الماركسيّة ) التي تعوّدنا عليها في أدب الالتزام، وإنما حسب العقائد الدينيّة. تواجه فاشية المجتمع بالجلد والمصابرة، وفي ذلك تأكيد على أنّ هذه الرواية تستجيب لذائقة جمهور ذي منزع يميني في فرنسا ملّ من قضايا الجندريّة والجنسانية وثقل السياسة وبحث عن نصٍّ قويّ "ساهرٍ على صفاء الأدبيّة معتنٍ بها"، وهو ما استحق عليه جائزة غونكور.   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها