كان شبيب ضئيل النشر إلى درجة أن صديقه الشاعر المهاجر والغائب شعرياً، ناظم السيد، كتب في فايسبوكه "في هذا الليل الإمرئ القيسي نتذكّر أحدهم بقوة..."على الطريق يتساقط مطر وأصدقاء"، شبيب الأمين لفرط ما هو شاعر، لكثرة ما أحبَّ الشعر، هجره. يكفي أنه قال هذه الجملة التي تجمع النبوة بالمأساة، والحكمة بالتخلي. ولاحظوا معي، الجملة تخلو من أي "أنا"، لكنَّ فيها ذاتاً مضمرة"...
والجملة ذاتها التي يذكرها السيد، سيعيد شبيب كتابتها لكن بصيغة الماضي لا المضارع، "في الطريق تساقط أصدقاء"، في مجموعته "رجل للبيع يهزأ بالأبد يليه مصرع لقمان"(*)، الصادرة بعد نحو ثلاثين عاماً على المجموعة الأولى... ومن يقرأ المجموعة الأولى والثانية لا بدّ أن ينتبه إلى ترابطهما، الثانية تتمة للأولى، أو هي فصلها الثاني، فأصدقاء الأمس الذين كتب عنهم شبيب(محمد شمس الدين، لقمان سليم،... ) في المرة الأولى ضمن، أجواء "تلك هي الحياة"، تساقطوا مثل زجاج. فـ"شمس"، كما كانوا ينادونه في مقاهي الحمرا، ذات يوم "أدارَ موتور حياته
مشّط شعره إلى خلفٍ
أعد قهوتهُ
رسم غيمة تمطر فوق زقاق...".
في المجموعة الثانية وتحديداً في قصيدة "نشيد اللاأمل" يقول شبيب: "تطاير بالوناً في خلاء/ ركن سيارة أيامه جانباً/ أعاد لوحة ألوانه، أعاد القلبَ إلى الدُرج/ الكائنُ الوهمي، شمس، تناثر زُجاجه/ ارتطم بالسماءِ".
وفي "أعتقد أنّني سكران" رسم شبيب صورة للقمان "يسكر في غابة/... يضحك كثيراً/ يكتب أشعاره على حيطان". في "رجل للبيع..." يكتب "ليل الثالث من شباط/ لقمان ينزف بين صخور/ يئن/ يجثم فوق صدري"، مصرع لقمان أو اغتياله، كان ذروة الأثر على شبيب، فعدا الصداقة القديمة، هو اغتيل من بعد ساعات على لقاء أخير جمعهما...
من خلال مجموعته الثانية، يكسر شبيب "أسطورة" المجموعة الواحدة أو الباكورة التي عرف بها لسنوات، ويهديها "إلى الغول والعنقاء إلى نوال الأسعد والخل الوفيّ" بينما أهدى المجموعة الأولى إلى سيارته... وهو يواصل كتابة قصيدة مجانية هازئة، شعريتها مضادة للشعر، صورها الماكرة تختزل اللغة، تقول الأشياء التي لا تقال،"على هذه اليابسة خسرتُ بيادقي كلها
وعليّ الآن أن أدير الكارثة
أن أرتق ثقوب أيامي بقصائد مبتذلة
رجلٌ للبيع، يهزأُ بالأبد"...
وإذا كان "رجلٌ للبيع.."، أي الذي لا حول له ولا قوة، يهزأ أو يتهكم أو يسخر من الأبد، نقرأ في كتاب "لسان العرب": أبد: الأَبَدُ: الدَّهْرُ، وَالْجَمْعُ آبَادٌ وأُبود؛
والأَبَدُ: الدَّائِمُ والتأْبيد: التَّخْلِيدُ. وأَبَدَ بِالْمَكَانِ يأْبِد، بِالْكَسْرِ، أُبوداً: أَقام بِهِ وَلَمْ يَبْرَحْه. وأَبَدْتُ بِهِ آبُدُ أُبوداً؛ كَذَلِكَ. وأَبَدَت البهيمةُ تأْبُد وتأْبِدُ أَي تَوَحَّشَتْ. وجاء في "كتاب التعريفات" للجرجاني: "الأبد هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل، كما أن الأزل استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي، مدة لا يتوهم انتهاؤها بالفكر والتأمل البتة؛ وهو الشيء الذي لا نهاية له"... لكن في قصائد شبيب "فرجها كان الأبد"، وهو في أحيان "أبد عابر"، والقصائد الهازئة بالأبد تطاول كل شيء من السياسة إلى الدين الى المجتمع إلى الذات...
مجموعة شبيب الأمين هي نتاج الاختزال والحذف والمحو"أختزلُ مشاهداتي الهشّة بكلمات/ كلماتٌ، رحت أدرّبها على الطاعة"... "/ كأنها ماعز، كأنها دجاج"... "كلمات كأمل نفق داخل كتاب"... "كتبتُ ما كتبت/ إلا أنني محوتُ"، عبارات تخلو من الزركشات اللغوية والبيانية، مع مجموعة من التشابيه (ميتٌ كصديق... حزين كهدنة... ممدّد كشاعر... أنهدم كمئذنة)، صور تتسم بالدهشة والتهكم والسخرية "رائحة بولها تفوح من شاربيّ كدُخنة في صقيع" ضمن عبارات تلامس الكلام اليومي.
لا بأس أن نقول إن مجموعة شبيب فيها الذات الشعرية، أحوال الصداقات، أوراق قليلة من زمن الحرب، وتحضر أسماء وأزمنة تلمح إلى سياسات وأحوال مختلفة، من الصوانة إلى مخفر حبيش إلى جيش لحد وحبيب الشرتوني، ومحسن إ، 1982، ولبنان الذي"قضى نحبه في الرابع من آب الماضي/ لفظ أحشاءه في بحر".
(*) منشورات رياض الريس في بيروت
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها