الأحد 2023/10/29

آخر تحديث: 07:30 (بيروت)

ميشيل أنفري الماكر والسطحي...ما يجري في غزّة صراع حضارات

ميشيل أنفري الماكر والسطحي...ما يجري في غزّة صراع حضارات
إلحاق أنفري لهذه المعركة بحقل "صراع الحضارات" حيلة ماكرة تهدف إلى تخفيف وخز الضمير الغربي
increase حجم الخط decrease
في إحدى المقابلات التي أدارتها الصحافيّة سنية مبروك، على قناة أوروبا الأولى، أدلى المفكّر الفرنسي ميشيل أنفري بتصريحات مثيرة حول الحرب التي تدور رحاها في غزّة. في بداية مداخلتِه، أدان أنفري قادة فلسطين لأنّهم، حسب رأيه وزعمه، خدعوا شعبهم، مذكّرًا بأنّ حركة حماس التي تحكم القطاع منذ 2005، مثل سهى عرفات وقادة فتح، استحوذوا جميعًا على الأموال التي يبعث به الاتحاد الأوربيّ مساعدةً للشعب الفلسطيني، لكنّها ذابت في جيوب السلطة بسبب الفساد المتفشّي. 

ثم خلص أنفري إلى أنّ النّزاع العربيّ-الإسرائيلي، في جوهره، "صراع حضارات"، مقارنًا وضع فلسطين بما جرى في أرمينيا من اقتتالٍ بين المسلمين والمسيحيين، مردّدا أنّها "حرب دينيّة" وليست وطنيّة أو قوميّة، وهو في ذلك يستعيد أطروحة صاموئيل هنتغتون في كتابه: "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي" (1996). هذا إلى جانب التنديد بحماس وشيطنتها مع رفض إدانة المجازر الاسرائيليّة واعتبارها "حقًّا مشروعًا في الدفاع عن النفس".    

هذه التصريحات غير مفاجئة، وهي شائعة في الحقل الثقافيّ الفرنسي الذي يعاني من الاحتباس ضمن التفسير الديني لكلّ ظواهر المجتمعات العربيّة. فالتعليل الوحيد الذي يوظّفه جلّ المفكرين دينيٌّ، لاعتقادهم أنّ الإسلام يتحكّم في كلّ مفاصل الحياة اليوميّة، وليس مجرّد مرجعيّة رمزيّة، تُستحضر بهذا القدر أو ذاك بحسب الظروف الجيو- سياسيّة، في حين أنّ الصراع الفلسطينيّ-الإسرائيلي زمنيٌّ محضٌ يتّصل بمقوّمات الوجود التاريخيّ على الأرض ويعبّر عن "توق" شرعيّ لإنشاء دولة في حدودها، وهو ما تشترك فيه كلّ المجموعات البشريّة. نعم قد يلجأ هذا الطرف أو ذاك إلى توظيف الخطاب الديني من أجل التعبئة الاجتماعيّة، ولكنّ مادة النزاع وموضوعه دنيويّ بحت، لا مجال للخلط بينه وبين وسائله ولاسيّما الرمزية منها. وفي الجانب الآخر أيضًا، يوظّف اليهود مقولات دينيّة ويخضعون إلى نفس الآليات التأويليّة من أجل تسويغ اضطهاد الفلسطينيين والتشريع لسياسات قادتهم ولحروبهم حتى حين يرتكبون أفظع الجرائم.

ولطالما انتقد ميشال انفري، في أعماله الفلسفيّة، الرؤية الجوهرانيّة للأشياء (essentialisme) ولكن عندما يتعلق الأمر بالإسلام والعالم العربيّ، فإنّه يقع في نفس الفخّ الفظيع: اعتبار الإسلام مرجعية كليّة وهويّة ماورائيّة جامعة لأكثر من ملياري شخصٍ، تتجلّى في كلّ شيء وتتحكّم بكلّ شيء. وها هو يضعه في ضدّيّة مع التراث المسيحي- اليهوديّ ليفتح عليه حربًا شعواء، مع أنّ تعاليم هذا التّراث الأخلاقيّة والتوحيديّة، جزء تبنّاه الإسلام الذي جاء "مُصدّقا" لما سبقه من الديانات ومتمّما لها. وهو ما فرغ من التدليل عليه علماءُ الكلام منذ قرون. 

كما تناسى أنفري أنّ طبيعة النضال الفلسطيني، بكلّ مكوّناته العلمانيّة والاشتراكيّة والقوميّة، تهدف إلى تحقيق غاية واحدةٍ، لم تختلف عليها الفصائل والأحزاب، وإن تباينت رؤاهم في نهج تحقيقها: إنهاء الاحتلال وإنشاء دولة على حدود 1967 التي أقرّتها الأمم المتحدة. فحماس قامت بما قامت به ليس لأنّ الاسرائيليين يهودٌ وليس ضربًا لإيمانهم، بل لأنهم مُحتلّون اغتصبوا أرض غيرهم وهجّروا أهلها، ولم يبدأ هذا الصرّاع في السابع من أكتوبر ولن ينتهي حتى بإبادة كلّ العناصر المنضوية تحت لواء حماس. هي قضيّة كرامة وأرض ودولة واقتصاد وقانون داخلي وتنظيم اجتماعي يُسعى إلى تحقيقه بعد الاعتراف الدوليّ، ولا علاقة له بالدّين. وإلحاق أنفري لهذه المعركة بحقل "صراع الحضارات" حيلة ماكرة تهدف إلى تخفيف وخز الضمير الغربي "ورفع العتب" عنه، كما ترمي إلى تبرئة أوروبّا من التبعات الأخلاقية لهذا الإبادة المقيتة، مع أنّها متواطئة فيها بالمال والسّلاح فضلاً عن الانحياز المطلق لإسرائيل، وهو ما أثار استياء العديد من الفئات السياسية والشعبية داخلها، وتظاهرها أفصح الأدلة. كما أنّ توصيف النزاع بأنّه "حرب دينيّة" يجعل منه مظهرًا من مظاهر التخلّف والرجعيّة، حسب المنطق الغربيّ الذي يقرن وصف "ديني" بصور الهمجيّة والعنف في استدعاء خفيّ لحروب العصور الوسطى وعهود ما قبل الحداثة.


وهو ما يقصده أنفري الذي يتّهم حماس بخوض حرب تجاوزها الزمن مُحمّلا إياها بدلالاتٍ سلبية في مخيال الغرب حتى يعفي هذا الأخير من التدخّل فيها. هو تلاعب بالأدوار وتحويل للضّحيّة إلى جلادٍ لتسويغ إلقاء اللوم عليه ومحاربته. 

من جهة ثانية، تهدف هذه التصريحات إلى إخفاء المطلب الرئيس الذي بُحّت الحناجر مُطالبةً به في كل المحافل الدوليّة والمحليّة: إنشاء دولة فلسطينيّة وإنهاء الاحتلال حتى يتمتع هذا الشّعب، الوحيد الذي لا يزال محتلًّا في العالم، بأدنى ظروف العيش الكريم وحتى يستنشق نسائم "الأخوّة والمساواة والحرّيّة"، التي يتغنّى بها أنفري ويمنعها عن غير الأوروبيين. مما ينمّ عن ازدواجية في المعايير وتجاهل للوقائع على الأرض، فظهور حماس، والأحزاب ذات المرجعية الدينيّة الأخرى، مجرّد مرحلة في الكفاح الطويل بكل أطيافه القومية والعلمانية والوطنية والعقلانيّة. وليس اعتماد المرجعيّة الدينيّة إلا لأنها أقدر من غيرها على تحريك الهِمَم وتعبئة مخيال الناس في فلسطين وفي غيرها من بلدان المنطقة. ولئن كان هذا البعد الديني مهمّا في مقومات الذاتيّة العربية، فليس هو بالجزء الأوحد. 

وربما لا يتصوّر انفري، في سطحيّته، أنّ بين الشعب الفلسطيني يوجد أفراد مؤمنون وآخرون علمانيون أو متشككون أو حتى لا-دينيون، مثل أيّ شعبٍ عربي آخر طالما رُبط تعميمًا وتضليلا بالإسلام، مع أنّ المجتمعات العصريّة تعيش جميعُها على إيقاع العَلْمَنة والعَولَمة، كسائر دول العالم، بعد اكتساح مفاهيم كونيّة في التواصل والاقتصاد والسّياسة، ولم يعد من معنًى لربطها آليّا بأيّة ديانة. 

وقد سبق لأنفري أن تناول هذه القضيّة في كتابه: "أن نُفكّر في الإسلام" (2016)، وأبان فيه عن سذاجة كاملة في عرض هذه المسائل، فهو يقارب الإسلام ككلّ لا تضاريس فيه، مجرد كتلة هلاميّة تُستحضر دون أدنى وضعٍ في السياق أو تنصيص على تعددية الخطاب والمعنى والحركة في ظلّ المجتمعات التي تسمّى تمويهًا "إسلاميّة"، في حين أنّ أفرادها أناس قبل كل شيء، يطمعون في أدنى مقومات العيش الكريم التي يتوق إليها أي إنسان: الحياة في ظلّ دولة تحترمه مواطنًا، له الحق في الحرية والانتقال والعمل والإيمان وعَدَمه. وهو خطاب يفرغ المقاومة من أيّة شرعيّة سياسيّة مُعلمَنَة، كما يفهمها الغرب ويدافع عنها، ويقدّم له بذلك طوق نجاة حتى لا يُساعد فيها. 

ربّما كان انفري في بعض مواقفه متعاطفًا مع فلسطين، ولكنّه بهذا التحليل السطحي يختزل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى بعدٍ وحيد ويغيّب الأبعاد الأخرى التي تشكل جوهر أيّ نزاع بشري، بقطع النظر عن اللغة واللون والدّين التي تصبح عوامل ثانويّة لا تُرى في كثافة الاحتلال وسواده. الأرض المغتصبة جسد جريح ومادّة ترابيّة كثيفة تسبق كلّ روحانيّة لطيفة، بما فيها الدّين. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها