إنّ الحوار بين الديانات الثلاث المدعوة «توحيديّة» أو «إبراهيميّة»، اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، ليس بالأمر المستجدّ. فلئن شهد القرن العشرون حروباً بين ساكني كوكبنا، ولا سيّما الحربين العالميّتين، فاقت في سعتها وعدد ضحاياها، ما شهدته البشريّة جمعاء في عصور سابقة من صراعات، إلّا أنّ هذا القرن كان أيضاً عصر انفتاح الأديان بعضها على بعض وانطلاق الحوار في ما بينها. غير أنّ هذا الحوار يعاني اليوم جملةً من الالتباسات جعلت بعضهم يعتبره قليل الفائدة، أو حتّى غير مجدٍ. فهو، في بعض محافله، كثيراً ما يقع ضحيّة الإسراف في المجاملة أو النخبويّة المفرطة، أو يستغرق في العموميّات متحاشياً الخوض في المسائل الخلافيّة. ولا يندر أن تجد أصحابه يحجمون عن القيام بعمليّة نقد ذاتيّ لتراثهم، بحيث تبدو التراثات الدينيّة كتلاً متراصّة، لا مجموعةً من «الخطابات» المتداخلة والمتفارقة في آن.
لا ينكر «مركز الأبحاث البافاريّ للخطابات بين الأديان»، المُنشأ حديثاً في تشرين الأوّل/أكتوبر من العام 2020 في جامعة إرلانغن–نورنبرغ بتمويل من ولاية بافاريا الألمانيّة، أهمّيّة الحوار بين الأديان الثلاثة. لكنّه يختطّ لذاته منهجيّةً أخرى تقوم على تفحّص تراثات هذه الأديان بوصفها مكاناً يصطخب فيه عدد كبير من الخطابات الدينيّة التي تتلاقى وتتباعد، تتجاذب وتتنافر، تتشابه وتختلف. جديد هذا المركز العلميّ، إذاً، هو أنّه لا ينظر إلى التقاطعات والانقطاعات بين الأديان بوصفها اختلافات عقائديّةً قائمةً في ما يشبه الفراغ، بل يقاربها في سياقاتها، ولا سيّما بوصفها جزءاً من خطابات سائلة تتحرّك كحركة الأمواج وتعصى على أيّ تنميط إيديولوجيّ أو عقائديّ. ويشدّد صاحب فكرة هذا المركز ومديره البروفيسور جورج تامر اللبنانيّ الأصل، أستاذ اللغات الشرقيّة والعلوم الإسلاميّة في جامعة إرلانغن–نورنبرغ، على أنّ دراسة الخطابات الدينيّة في تقاربها وتباعدها تشكّل شرطاً أساسيّاً لمعرفة الذات ومعرفة الآخر، وأنّ أيّ ترسيخ للسلام المجتمعيّ يجب أن يبنى على هذه المعرفة. هذا لا يسري على المجتمعات التي شهدت في الآونة الأخيرة تصاعداً للعنف باسم الدين فحسب، كما في الشرق الأوسط، بل على المجتمع الألمانيّ أيضاً الذي شهد موجات من المعاداة للساميّة والإسلام، فضلاً عن توافد مضطرد للاجئين في السنين الأخيرة.
النبرة الثانية التي يضعها المركز الناشئ هي أهمّيّة نقل المعرفة إلى المجتمع عبر وسائل مخاطبة تطاول أكبر شريحة ممكنة من الناس. فمن المعروف أنّ واحداً من أبرز التباسات البحث العلميّ تكمن في صعوبة وصوله إلى غير الاختصاصيّين، ولا سيّما شريحة الشباب والطلبة والمهتمّين من العامّة، وذلك على الرغم من قدرته على تحقيق معرفة راسخة تقوم على أسس منهجيّة متينة. في سبيل تحقيق عمليّة التواصل هذه، يخطّط المركز لإنتاج عدد من الأفلام الوثائقيّة والمواد الرقميّة التي تخاطب الفئات المجتمعيّة على اختلافها، طبعاً من دون إهمال الوسائل التقليديّة للنشر الجامعيّ كالكتب والدوريّات.
ويأمل المركز أن تكون له مساهمة فاعلة في ترسيخ التنوّع بوصفه قيمةً من قيم المجتمعات التي تتوخّى ترسيخ ثقافة السلام بين المنتمين إليها، وذلك بما يتخطّى مفهوم التسامح. فهذا المفهوم يفترض، صراحةً أو ضمناً، أنّ هناك مَن يتسامح مع الآخر، وهو معرّض تالياً للوقوع في إشكاليّة عدم المساواة بين أفراد المجتمع الواحد. ويرى جورج تامر، مؤسّس المركز، في هذا الصدد أنّه يتعيّن على الجامعة، بوصفها مكاناً للتناضح بين فروع العلم على اختلافها، أن تضطلع بدور مركزيّ في توطيد ثقافة التنوّع والانفتاح لا في المجتمع بالمعنى الضيّق فحسب، بل أيضاً حيال من هم في مواقع القرار ويضطلعون بالمسؤوليّة السياسيّة خدمةً للشأن العامّ وقضاياه.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها