قبل خمس سنوات من اليوم، انقضّوا على الثورة الغرّاء بكلّ ما أوتوا من مكر وتدليس. فقأوا عيون الشباب والصبايا، اقتلعوا خيامهم وأحرقوها، وحوّلوا ساحات بيروت المغناج إلى مساحات تكتظّ بالرعاع والغاز المسيّل للدموع. هل تذكرون؟ يومها فضحت المافيا ذاتها بوصفها تتوكّأ على الوعيد والسلاح والصرخات المذهبيّة البلهاء. ويومها كشف حملة البنادق أنّ سرديّتهم التي تدّعي محاربة الفساد إن هي إلّا كلام أجوف لا يباع بدينارين في سوق النخاسة.
بعد قمع انتفاضة الأحرار في 17 تشرين، خُيّل لزمرة السياسيّين التي تحكم البلد أنّها انتصرت. أطلقت مفرقعاتها على الذين انتفضوا احتجاجاً على تدمير المدينة المتوسّطيّة ومرفأها الجميل. استخدمت كلّ الأساليب الملتوية، وصولاً إلى التهديد، في سبيل محاصرة القضاء لئلّا يُفتضح أمر ضلوعها في جريمة تدمير بيروت. نجحت في ترميم ذاتها في السلطة التنفيذيّة والمجلس النيابيّ على الرغم من الضربات القاسية التي تلقّتها في الانتخابات. باعت بحر لبنان، بما يختزنه من ثروات، كرمى لعيني الضابط الإسرائيليّ الذي جاء يفاوضها كي تتسنّى لها المحافظة على شبكة مصالحها. حالت دون انتخاب رئيس للجمهوريّة مشترطةً أن يأتي هذا جزءاً من صفقة كبرى تتيح لها إعادة إنتاج ذاتها.
حسبت عصابة قطّاع الطرق هذه حسابَ الأمور جميعها. لكن، ذات يوم اسمه السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أتاها بالأخبار "مَن لم تزوّد"، على قول الشاعر الجاهليّ العظيم طرفة بن العبد. فهي لم تحسب حساب جنون يحيى السنوار (رحمه الله)، وكيف أنّ الدولة الغاصبة بعده فقدت رشدها، وراحت تحرق وتهدّم وتقتل يمنةً ويسرة. خيّل للزمرة الحاكمة أنّها تستطيع أن تستمرّ في اللعب كأنّ الأمور لم تتغيّر. حين قيل لها إنّنا مقبلون على حرب طاحنة، وإنّ الإسرائيليّ بات يفتقر إلى روح النكتة، لم تصدّق. حين عُرضت عليها تسوية "لائقة" تمنع خراب البلد، خالت أنّ القناصل يمزحون، وأنّهم يتوافدون إليها بكرةً وعشيّة كي يتأمّلوا جمالها الموصوف. وحين بدأت "الجارة" حربها علينا، واغتالت من اغتالت، وهجّرت من هجّرت، وهدّمت ما هدّمت، ازدادت المنظومة تشبّثاً بخطابها الهلاميّ، حاسبةً أنّها قادرة على عقد صفقة جديدة مع القوى العظمى تسمح لها بحماية ذاتها، بينما هي ترقص رقصتها الأخيرة على بقايا وطن يكاد يتحوّل إلى كومة من ركام.
الحقّ أنّ هذه المافيا، على حذاقتها، اختصاصيّة في تضييع الفرص. لقد ضيّعت فرصة التغيير يوم قمعت ثورة 17 تشرين السلميّة، بالعنف والبارود، ويوم استهانت بوجع الناس الذين تقطّعت أشلاؤهم في انفجار المرفأ، ويوم سخّرت القضاة خدمةً لمصالحها، ويوم داست على كرامات الناس الذين تهجّروا من قراهم، كأنّهم قطعان من جرذان تائهة، بسبب حرب شعواء فُرضت عليهم، ويوم غفلت عن أنّ فرصة تفادي الخراب والموت لا تقرع بابها مرّتين.
واليوم، وبينما هي تطالب بما تطالب، نرى بأمّ العين أنّها لم تدرك بعد أنّ اللعبة انتهت، وأنّ التاريخ الذي لم تُحسن قراءة دلالاته صار وراءها، وأنّ لعبة التحايل على الأشياء طمعاً في تكديس المال والنفوذ لا يمكن أن تستمرّ إلى الأبد. إنّها، بمعنًى ما، لعنة الثورة الغرّاء التي ما زالت تعمل في رحم الحاضر المتمخّض بالتحوّلات السراع. فالذين قمعوها يختبأون اليوم في جحورهم خوفاً ممّا لم ينظروه بعد، أو كما كتب النبيّ العظيم عاموس ذات يوم، يهربون من أمام الأسد فيصادفهم الدبّ، أو يدخلون البيت واضعين يدهم على الحائط فتلدغهم الحيّة. وإنّ غداً لناظره قريب.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها