انتهى المترجمان محمد مصطفى الجاروش وصفاء جبران، من تحقيق ومراجعة نص مخطوطة "حنا دياب"(*)، رجل مسيحي، ماروني من حلب، رافق بول لوكا - مبعوث من قبل الملك الفرنسي لويس الرابع عشر – في رحلة الى "البلاد الشرقية". أما الرحلة فكانت بين 1708 و1710 وانتهى وانتهى حنا من كتابتها في 1764.
والرحلة سبق أن صدرت في كتاب عن
منشورات اكت سود في باريس، ترجمه إلى الفرنسيّة وحقّقه وعلّق عليه بول فحمة - تييري وبرنار هيبيرجي وجيروم لانتان. وقد تُرجم النصّ عن مخطوطةٍ فريدة محفوظة في مكتبة الفاتيكان، وكتب عنها
الباحث اللبناني أحمد بيضون وغيره من الكتاب، كان حنّا دياب في العشرين من عمره حين غادر حلب إلى طرابلس فصيدا فقبرص فمصر فليبيا فتونس، ومنها إلى ليفورنا في ايطاليا، ثمّ إلى جنوة فمرسيليا. مرّ بعد ذلك بمدينة ليون في طريقه إلى باريس حيث استقرّ زمناً، وتعرّف إلى معالمها، واطّلع على جانبٍ من حياتها الثقافيّة (الأوبرا مثلاً)، واشتهر أمره حتّى أنّه استُقبل في قصر فرساي، بلاط الملك لويس الرابع عشر. وحنا دياب. بحسب
بول فحمة – تييري: ("رجل عادي"، وخادم، وطباخ وعامل تنظيف، تعلم القراءة والكتابة بالفرنسية، لدى تجار حلب، لكنه اكتسب بعض المواهب. إنه أصغر أشقائه المسيحيين الذي بنى شبكات ارتقائه الاجتماعي. لم تحد خياراته الحياتية عن المعايير ولم تعقد عملية ارتقائه الاجتماعي. لكن، وبفضل جرعة من العصيان، بحث عن طريقه الخاص: غادر حلب سرًّا؛ لأن إخوته "لم يكونوا ليسمحوا له بالذهاب"، كما يقول. وفي الصعيد، رد على رسول أبلغه برسالة تهديد تدعوه إلى العودة إلى حلب قائلًا: "أنا الآن رجل يحدد مساره بيده". عندما سأله رئيسه المستقبلي حول رحلته، رد بنبرة قوية، بأنه يريد "استكشاف العالم").
والطريف، بحسب
صفاء جبران، أن المخطوطة مكتوبة باللغة "العربية الوسطى" وتغلب عليها اللهجة الشامية (والتي ما زالت تسمع في لبنان) وفيها الكثير من العبارات الإيطالية والفرنسية والتركية. وتقول جبران لـ"المدن": "يبدو أن اللغة التي استعملها حنا في تدوين مخطوطته تندمج بما يطلق عليه اللغويين المختصين اسم "اللغة العربية الوسيطة"، وتتضمن ألواناً لغوية عديدة ظهرت في نصوص عديدة على مدى تطور اللغة. وأن من كتب هذه النصوص ينظر الى العربية كنموذج مثالي لكنه يفشل في استخدامها فتتدخل العامية في نصوصهم بحيث تقترب بنيتها غالباً إلى اللغة العامية ذاتها. ولذلك فلا يمكن اعتبار هذه النصوص مكتوبةً بالعامية نظراً لتجلي المحاولة فيها للتقرب من الفصحى في الأساس، كما لاحظ فرستيغ.
ويمكن إدراج لغة حنا في العربية الوسيطة فهي نموذج من اللغة العربية باللهجة الشامية كما كانت متداولة في القرن الثامن عشر، خصوصاً في الكلمات والعبارات، ولوّنها بأشكال من الفصحى وربما لعدم إلمامه بقواعد الفصحى وكتابتها، فقد جاءت لغة حنا بهذا الشكل الممتع العفوي والأليف. لكن لا أعتقد انه يمكننا ان نشبهها باللغة العربية البيضاء المعتبرة " لهجة وسطى بين الفصحى العامية وهي أرفع من هذه وأدنى من تلك" فليس في لغة حنا ما يقيدنا بهذا التحديد". وتضيف جبران "هذا من جهة اللغة أما من جهة الكتابة والتدوين فمما يثير الفضول والاعجاب هو كيف يكتب نفس الكلمة بحروف مختلفة ومرارا عدة على نفس السطر كـ باريس-بهريس-بهريس، اما ما لفت نظرنا هو أن الاستغراب الذي يشعر به القارئ في البدء سريعا ما يتحول الى قراءة ممتعة خاصة عند استعامله كلمات اعتاد سمعنا عليها من كثرة استعمالها من قبل اجدادنا فطالما سمعت جدي وجدتي يقولان: "طسكرة، بوغاز، ناولون، أخور، خرستانه وططلي وتتن ومغيّر حلاسه".
وليس من المبالغة اعتبار "رحلة حنا دياب وثيقةً نادرة، لعلّها الأولى من نوعها، عن اكتشاف أوروبا من قبل عربيّ مشرقيّ. ويزيد من أهمّيتها براعة حنّا في القصّ - ومن الثابت في هذا الصدد أنّه هو الذي عرّف أنطوان غالان، مترجم كتاب "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسيّة وأوّل من بوّأه مكانته العالية في الآداب العالميّة، على اثنتي عشرة قصّة، منها "علي بابا" و"علاء الدين""... بمعنى آخر يملك حنا دياب متخيلا اضاف الى الف ليلة وليلة بعض القصص، سميت القصص المزورة وهي مزورة بنبل اذ لا تقل اهمية عن النص الاصلي، وبذلك يكون حنا قدم اضافة على كتاب ألف ليلة وليلة الذي يعتبر الكتاب الأكثر كوزموبولوتية في العالم، فهو كتاب بلا مؤلف في الأساس ويقال انه يعود الى الاصل الهندي وترجم حتى وصل الى اللغة العربية وأضيفت اليه بعض القصص في العراق وفي مصر وغيرها من البلدان، وفي طبعاته تعرض للرقابة باستثناء طبعة بولاق المصرية. وسبق للمحقق والمترجم محمد مصطفى الجاروش أن يبيّن أن قصة "علاء الدين" وهي من "الليالي العربية المزورة" موجودة في مخطوطتين مودعتين في المكتبة الأهلية في باريس، ناسخ الأولى القسيس السوري ديونيسيوس شاويش، الذي طُرد من فرنسا إثر ثورة 1789، والثانية اللبناني ميخائيل الصباغ، نشرها للمرة الأولى والأخيرة المستشرق الفرنكو - بولاندي زوتنبرغ عام 1888 في باريس، ولم يشكك أحد في النص جدياً حتى جاء الباحث العراقي محسن مهدي عام 1984 وقال إن هذا النص ليس إلا مجرد تزوير من غير أي قيمة علمية أو أدبية قام القسيس شاويش بترجمة مزعزعة له لم يَلتفَت إليها أحد بعين الجد (فهو، مثلاً، لم يحسن حتى إملاء اسم البطل، فيكتبه "عليا الدين")، ثم جاء بعده ميخائيل الصباغ وصحّحها ونقلها إلى مخطوطة أخرى فحظيت باهتمام أكبر لدى المستشرقين آنذاك لإتقان ناسخها اللغة العربية.
وضمن رحلة حنا دياب التي تصدر عن منشورات الجمل، مقدمة للباحثة المتخصصة في "ألف ليلة وليلة"، كريستياني داميان(ترجمة محمد مصطفى الجاروش) تفيد بأنه قبل التسعينيات من القرن العشرين، عندما اكتشف الباحث الفرنسي جيروم لنتان مخطوطة ذكريات حنا دياب في المكتبة الرسولية في مدينة الفاتيكان، فإن المعلومات الوحيدة عن حياة دياب لم تتوافر إلا في يوميات المستشرق الفرنسي أنطوان غالان. نجد في يومياته تلك إشاراتٍ عديدةً إلى حنا دياب، خصوصاً خلال الفترة التي قضاها في باريس نزيلًا عند بول لوكا، والذي كان سائحًا يجوب العالم الشرقي. ومع كون الإشارات الموجودة في يوميات غالان تُعْلِمُنا، باقتضاب، أنه ماروني من حلب أتى إلى باريس صحبة بول لوكا، وبقي في العاصمة الفرنسية على الأقلّ حتى الفترة التي بين مارس/آذار ويوليو/تموز1709، وتلمح إلى انه كان رجلًا مثقفًا، والأهمّ انها تكشف لنا أن حنا قصّ على غالان حكايات طريفة كثيرة، وهذه الحكايات استخدمها غالان لاحقاً "لإكمال" ترجمته "ألف ليلة وليلة"، لأن مخطوطة الكتاب الوحيدة المتوفرة لديه آنذاك كانت "ناقصةً"، في حين أنه كان قد انتهى من نقلها إلى الفرنسية. أكثرية الإشارات إلى حنا في اليوميات تأتي مصاحبةً بملخَّصاتٍ لحكاياته، وهي 16 حكاية، نشرت منها 12 في المُجلّدات الأربعة الأخيرة لترجمة غالان لألف ليلة وليلة.
وبحسب داميان، بقي نصّ ذكريات حنا مجهولًا لدى الجمهور بعد اكتشافه في تسعينيات القرن العشرين، ولم يُعرف إلا بعد نشر ترجمته الفرنسية العام 2015. ويأتي نشر هذه الذكريات، بمعلومات مهمة عن حنا، ابتداءً من اسمه الكامل: أنطون يوسف حنا دياب. ونصه، الذي كتبه عندما كان قد تجاوز السبعين ونيفًا من عمره، يروي الرّحلة التي قام بها منذ أكثر من نصف قرن، صحبة بول لوكا كترجمان له في المدن العربية المختلفة التي مرّا بها. وحسب ملاحظاته، فإن الرحالة الفرنسي كان قد وعده، إذا رافقه في رحلته، بوظيفة في مكتبة الملك. لهذا السبب جاب حنا، بين 1707 و1709، أماكن كثيرة في البحر المتوسط، من طرابلس الغرب، حتى بورساليا، حيث استقبله الملك لويس الرابع عشر. إلا أنه، بعد وصوله إلى فرنسا، وجد حنا نفسه بين بول لوكا وأنطوان غالان بسبب صراعهما من أجل مصالحهما الخاصّة ونمائمهما، ولذا لم يفِ بول لوكا بوعده، ما أدّى إلى قرار حنا بأن يقفل عائدًا بمفرده إلى حلب، وقبل عودته النهائية إلى هناك مرّ في طريقه ببعض المدن التركية، منها أزمير والأستانة.
(*) تصدر قريباً عن "منشورات الجمل" في بيروت.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها