لسذاجتنا أو براءتنا، كنا نتوهم أو نحسب أنّ الحرب بين إسرائيل وحزب الله، لن تخرج عما يسمى "قواعد الاشتباك" في المنطقة الحدودية الجنوبية، وستقتصر المعارك على أهداف قليلة وتسجيل نقاط فحسب، فحتى اللحظات الأخيرة كان بعض المواطنين يشيدون بيوتاً باهظة الكلفة في الجنوب، ويشترون أحجار الزينة والقرميد، كأن ما يحصل بالقرب منهم مجرد إشتباكات عابرة، حتى إن الكثير من "المحللين" نقلوا إن "حزب الله" مطمئن الى أن حرب الإسناد لن تتمدّد، فإسرائيل حسبما سرّب بعض المقربين من حزب الله، لن توسع الحرب، تخاف من جبهات الإسناد الأخرى... لكن حصل ما حصل.
ولأسابيع خلتْ أيضاً، كنا نتوهم أنّ الطائرات الإسرائيلية المدمّرة لن تهاجم قلب بعلبك وسوقها وقلعتها، تقصف بلدة دورس والبلدات المجاورة، تقصف أطراف المدينة، تقصف نقاطاً محدّدة فحسب. السكان لم يغادروا في البدء، لكن الطائرات الحربية صارت تقترب أكثر في قصفها، قصفت مبنى "القرض الحسن"، وقصفت بالقرب من ثكنة غورو، وطاول القصف سور القلعة الروماني مخلفاً أضراراً كبيرة، قبل تضرر معلم قبة دورس الأثري جراء القصف على مدخل بعلبك الجنوبي.
(غارة عند سور القلعة)
بعض الهجمات على أطراف المدينة، كان دخانها يتداخل مع عواميد القلعة في الصور التي شاهدناها. انتبهنا في لحظة أن القصف بدأ يصل إلى كل شيء، الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الذي صار يتحكم بمصائرنا، طلب من سكان بعلبك الإخلاء فوراً.. لا مزاح مع الطائرات الهمجية، على وجه السرعة بات الموطنون نازحين في التيه، في الضياع، بعضهم توهم أن يلجأ الى القعلة قبل أن يعدّل وجهته. غارة واحد على منطقة رأس العين في المدينة، أحالت المنطقة إلى أطلال وركام. قوة العصف والشظايا، جعلتنا نصمت أو نصاب بالهول. كثر صاروا يرثون المدينة، يتحسرون على ماضيها. البيانات والمقالات بدأت تخاف أكثر على القلعة وأعمدتها وذاكرتها. أدرك الجميع أن لا شيء يمكن أن يمنع الهمجية الإسرائيلية من استهدافها، آلة حرب لا تردها أعراف ولا مواثيق ولا قوانين، ولا تصريحات وزير الثقافة اللبناني الذي قال إن قلعة بعلبك ليست بحاجة إلى شعار الدرع الأزرق لأنها مُدرجة في لائحة التراث العالمي.
تقصف إسرائيل، تمارس أعلى مراحل الشرّ. تدمّر، تهجّر، تقتل البشر والحجر والشجر والمطعم والملهى والمدرسة والرصيف، فلا نجد أمامنا سوى التأمل والتذكّر والتذمر والتحسّر واستعادة الماضي ومحطاته وأحداثه وفروعه وطبقاته الزمنية. عدا تاريخ القلعة وصورها والقدرات العجائبية في بنائها، وعدا المهرجانات العريقة ونجومها، العرب والأجانب، في الخمسينات والستينات والسبعينات والتسعينات وحتى قبل أسابيع من الحرب كانت "تقاوم" بعود شربل روحانا. نتذكّر مكتبة عبده مرتضى الحسيني العامرة بالكتب والوثائق، وندوة الخميس ومؤسسها علي شرف من 1966 حتى 1993 وكانت من أهم المنابر الثقافية، استضافت سعيد عقل وعبدالله العلايلي وحسين مروة وشوقي بزيع وحسين الحسيني وحبيب صادق، قبل أن تأتي المهرجانات الدينية والهوى الإيراني... في بعلبك هناك دستورية حسن الرفاعي وقصائد طلال حيدر وأغاني فيروز... "أنا شمعة على دراجك"، ورسوم رفيق شرف ومحمود أمهز، ودبكة آل الصلح ورقص كركلا وشعر خليل مطران وشيوعية قريبه نخلة.
بعلبك الكنعانية الفينيقية والآشورية والرومانية والعربية، و"جوبيتر" وباخوس، وحجر الحبلى في خطر. بعلبك أبرز معالم لبنان والشرق، شهدت ولادة ليالي الفولكلور اللبناني، وكانت مقصد السواح والأدباء والشعراء والمستشرقين، من صور ديفيد روبرتس، الى أزياء بريجيت باردو.
وما تفعله اسرائيل في هذه الحرب، أنها لا تدمّر البيوت وتفتك بالبشر فحسب، بل تسحق الذاكرة الجمعية والثقافية، تزيل معالم الأماكن بالبارود والنار، من القبور الى المكتبات والبيوت، من لوحات الفنان عبد الحميد بعلبكي ومتحفه في العديسة، إلى مكتبة الباحث علي زيعور وسوق النبطية الأثري، ولا شيء يمنعها من ارتكاب جريمة في آثار بعلبك.
بعلبك التي عطبتها الحرب في السبعينيات، ثم أصابها الترييف، وأطبقت على حياتها حملة السلاح العشوائي... الآن تقتلها الهمجية الإسرائيلية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها