عندما سألت الشاعر المصري عماد أبو صالح: لماذا وقد أصبحت اسماً مكرساً في قصيدة النثر العربية، لا تزال تطبع دواوينك على نفقتك الخاصّة؟ كان أمامه، خصوصاً وهو اللقاء الأول بيننا، أن يستريح في مقعده كشاعر أثير يحرص على ارتداء وشاح أنيق يناسب الخريف، بينما يطرح رؤية يسارية- في الغالب- عن موقفه من النشر والكتابة عموماً، لكنه أجاب في عفوية: لا أعرف! ربما تعودت على ذلك.
لم يكتف أبو صالح، بإيجازه المنطقي في الرد على سؤالي، حيث أوضح "لما توجهت بديواني الأول للنشر في التسعينات، لم تكن هناك دور كثيرة كما هو الأمر حاليًا، وطالبني الناشر بمبلغ مادي كبير لم يكن باستطاعتي توفيره حينها، فعدلت عن الفكرة حتى اهتديت إلى مطبعة، وكان معي حوالي مائتي جنيه، فطبعت 300 نسخة، وارتحت مع تلك المطبعة كثيرًا، خاصة أنني استطعت الحصول على ديواني مطبوعًا في غضون أسبوع، وفي تلك الفترة كنت غزير الإنتاج، أصدر كتابًا كل سنة، فبتُ متعودًا على النشر بتلك الطريقة، وهو ما كررته مع ديواني الأخير "كان نائمًا حين قامت الثورة"، رغم صدوره بعد نحو عشر سنوات من أخر دواويني".
أصدر عماد أبو صالح عشرة كتب (ثمانية دواوين وكتابين من الرسومات) تتابعت منذ منتصف التسعينيات ولمدة عشر سنوات، أخرجها كلها في طبعات خاصة على نفقته الشخصية، ويعمل صحافيًا منذ العام 1991 وحتى الآن، وبالرغم من ذلك قلما تجد له مقالا عن الأدب، حيث يقول- والرأي هنا مقتبس من حوار بجريدة الأخبار أجراه الشاعر محمد خير منذ سبع سنوات- إنه "لم أشأ أن أشتغل بالثقافة، ربما خوفًا من التعامل مع المثقفين، ربما هربًا من أن أجد نفسي في "دكان" ثقافي، أو من أن أصير صاحب سلطة ما، وغالبًا لأنّ الشعر ـــ المنطقة الحميمة في حياتي ـــ لم أشأ أن أخلطها بالعمل (...) لا أريد أن أتورط في الكتابة، أخاف أن أتخذها مهنة".
تبدو تجربة أبو صالح الإبداعية، فريدة على مستوى النص وأداء صاحبه، فعلى حين يبدو طرحه الشعري لقصيدة النثر مختلفًا عن مثيلاتها، فإن أداءه يتسق كذلك مع رؤيته الفردية للإبداع؛ يطبع ديوانه بنفسه ويسلمه لمن يريده أو أراد الحصول عليه، وكأنه يحفظ فنه خارج إطار التسليع، وربما يطرح ذلك الأداء اعتمادًا على قصيدته الكثير من الرؤى حول ماهية الكتابة نفسها بشكل عام، لكنه يمثل إلى جانب رده العفوي حول سؤال النشر، الصورة مكتملة بوجهيها التأويلي والحقيقي، وقد يكون ذلك الاهتمام بإبراز جانبي الصورة هو الهم الذي شغل "أبو صالح" خلال كتابة ديوانه الأخير "كان نائمًا حين قامت الثورة"، حيث يحتفي صاحب "أمور منتهية أصلا" بالجانب الآخر للصورة، ليس في الحقيقة وتأويلها، ولكن القبيح منها، على اعتبار أن وجهها الجمالي يضع الحقيقة ناقصة بتأويل قاصر "لابد للشاعر/ أحيانا/ أن يتنزه في مزبلة/ ليدرك روعة الوردة".
ولا يبرز ذلك فقط من خلال القصائد التي تبنت نقيض الجمال، نحو: "مديح الخطأ، مديح الفراغ، ذم الثورة، مديح الظلام، ذم الحرية، مديح العدم، ذم الحب، ذم الشعر"، وإنما أيضًا في استخدامه للمعنى نفسه وعرضه بصورتين متناقضتين، فقابيل وهابيل في مفتتح الديوان ليس هما قابيل وهابيل اللذان ينهيان صفحاته، وكذلك الحرية التي تبدو كعصفور، ليست نفسها العصفور الذي لا يحق له أن "يتكبر على الفأر/ لأنه/ هو نفسه/ لا يمكنه أن يبقى معلقًا/ طول الوقت/في الهواء/ لابد له/ في نهاية الطيران/من عش/أو رصاصة".
ويبدو أن البناء هو هاجس الصحافي الذي يعمل بالصفحة الاقتصادية في جريدة الوفد المصرية منذ نحو 24 عامًا، ويتضح ذلك جليًا في الصور الشعرية الحافل بها ديوانه الأخير، وهي صورة تراتبية البناء، تعتمد إما على التمهيد حتى تكتمل أو على الإيجاز ثم التفصيل، "كل شجرة، شجار/لا تفلح الطيور/ التي تعزف لها كل صباح/ في مصالحة أغصانها مع نفسها"، وبشكل عام تختلف بناء قصيدة النثر عند صاحب "مهندس العالم" عن غيرها، فهي لا تعتمد على طرح "العادي" قبل هدم عاديته من خلال الختام المفارق للقصيدة، وإنما تنطلق القصيدة اعتمادًا على الطرح المفارق ذاته الذي –ربما- قد يختتم بإبراز المعنى المنطقي، حتى وإن كان فلسفيًا "الشجر أصل شقائنا/ منذ أن أغوت أدم بتفاحة/ نحن/ بسببها/ ندفع ثمن خلافات الله مع الشيطان"، كذلك يلجأ أبو صالح في أحيان كثيرة للحوار كأداة لبناء القصيدة، وهو إما حوار داخلي بين شخصياتها، أو خارجي بين الشاعر والمتلقي، نحو ما جاء في "ذم الحب" أو "مديح الشعراء"، لكنه يظهر بجلاء في قصيدة "ذم الشعر": "أنت شاعر؟/كنت/تركته؟/أغواني وهجرني/لماذا تجلس في الحديقة؟/لأنصح الأطفال/ماذا تقول لهم؟/احذروه/يتخفى، أحيانا، في الحلوى/ وللشعراء الجدد؟/أمامكم فرصة للهرب/سيحولكم إلى كلاب/تلهثون وراء خطواته/اكتبوا الروايات".
وبالرغم من أن الشاعر لا يطرح ديوانه في المكتبات، إلا أنه وضع الاقتباس الأخير، محل كلمة الغلاف على الكتاب، وكلمة الغلاف هي في الأساس أداة ترويجية تعطي المشتري لمحة عما سيشتريه، وحيث أنه لا يوجد هناك متلق مشتر في تجربة أبو صالح الإبداعية، يبدو استخدام الشاعر -الذي يخرج دواوينه بنفسه- لتلك الأداة محير، ربما يفتح الباب على التأويلات، أو ربما هي ببساطة الجانب الآخر الذي يكمل صورة الغلاف.
*ولد الشاعر المصري عماد أبو صالح في العام 1967 بمدينة المنصورة، وكتبه العشرة الصادرة هي: "أمور منتهية أصلًا" (1995)، "كلب ينبح ليقتل الوقت" (1996)، "عجوز تؤلمه الضحكات" (1997)، "أنا خائف "(1998)، "قبور واسعة" (1999)، "مهندس العالم" (2002)، "جمال كافر" (2005)، "أحب أحلى من الحرب (أشعار ورسوم)" (2006)، "عش للعصافير (رسوم)" (2010)، "كان نائمًا حين قامت الثورة" (2015).
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها