الأربعاء 2024/10/09

آخر تحديث: 15:05 (بيروت)

"حرام" فلسطين و"حلال" الهولوكوست

الأربعاء 2024/10/09
"حرام" فلسطين و"حلال" الهولوكوست
"أولَم يشبع الشيطان من كل هذا الخراب"
increase حجم الخط decrease
بعد عام اتسع القتل فيه حتى تجاوز فلسطين إلى لبنان، لا يبدو اتهام العالم "المتقدم" بازدواجية المعايير كاف لتفسير، ليس صمته، وإنما تصفيقه للمجرم والشد على يديه كلما أوقعت طلقاته ضحية جديدة، وكأن مجازًا ركيكًا مثل "عقيدة الدم"، أو "رب لا ينتصب عرشه من دون الجثث"، يستحيل وجيهاً لوصف ما يجري ضد أبرياء الأرضين العربيتين. هل يتضح المشهد، أو يجد لذاته تفسيرًا، إن التفتت إليه العين من تلك الزاوية التي قد تبدو بعيدة؟

في جلسة تزامنت مع الذكرى السنوية الأولى للسابع من أكتوبر، استضاف صالون "تفكير"، وهو صالون تنظمه أكاديمية "تفكير" الافتراضية، الباحث وليد الخشاب تحت عنوان موحٍ، هو "التفكير المحرم: النطق بفلسطين"، لا يوارب في إشارته إلى بعد ديني يقود الغرب في تعاطيه مع المسألة الفلسطينية وما يتعلق بها.

فالخشاب المهتم بتحليل الخطاب والصورة، يفترض أن الصراع الذي بدأ منذ "الاحتلال الأوروبي" لفلسطين العام 1948 ينبني على قداسة ليس محلها الشرائع السماوية التي نبذها الغرب منذ الحرب العالمية الثانية، وإنما ما يعدّه دينًا استبدلته أوروبا بالإيمان المسيحي بعدما صار الأخير محل تساؤل أمام الخراب الذي أصاب القارة العجوز، يقول: "حدث تراجع للفكر الديني في العالم كله، ما خلف فراغًا ليملأه مقدس آخر هو دين المحرقة".

إشارة الأستاذ في جامعة يورك البريطانية، إلى محرقة النازية تحمل بعداً مقدسًا جديدًا، ليست غير كناية عن إطار أكبر وضعه الغرب موضع عقيدة أخذت في شكلها وتطبيقها شكل المعتنق المتطرف، حسب تصور الخشاب، فالكاثوليكية التي كانت غالبة في العصور الوسطى وتبشر بمنظور عن العالم "يصلح للعالم كله"، وتعني كمفردة حرفيًا "ما يشمل العالم أجمع"، ترجمتها العلمانية إلى صورة مواثيق الأمم المتحدة، التي صارت وفق المنظور الأوروبي "صالحة لأن تكون رسالة تشمل العالم"، لكنها اتخذتها رغم ذلك كعقيدة انتقائية، يقول الخشاب "صنعت حقوق الإنسان من أجل الرجل الأبيض ابن الطبقة الوسطى، وعندما يمسه الأمر، فإن البشر لا يكونون متساوين في المجمل، يرتبط ذلك للأسف بالحداثة الغربية التي وإن امتلك خطابًا أخلاقيًا عن حقوق الإنسان والمساواة وحق تقرير الشعوب لمصائرها، فإنها تطبقه بشكل انتقائي عندما يمسها الأمر". ويضيف "فيما يتعلق بفلسطين ودولة الاحتلال الأوروبي التي أنشأت في الأربعينيات، فإن المسألة تذهب إلى أبعد من فكرة ازدواج المعايير الغربية، وأبعد من السياسة بالمعنى الاستعماري والاقتصادي. المسألة في رأيّ أكثر عمقًا من هذا".

نظام الخطاب
ينطلق الخشاب في فرضيته من ميشيل فوكو "الذي أرسى ملاحظة لم تزل تحكم النطق وتقييد الخطاب إلى يومنا هذا، في كتابه عن "نظام الخطاب". يذكرنا فوكو بأن كافة المجتمعات، في كافة العصور، كانت تنظم الخطاب إلى ما يقال وما لا يقال، وإلى ما ينصت إليه ويتمتع بمصداقية وما لا يلقى إليه ببال. الكلام عن المحرقة -محرقة الأشكيناز- يدخل في مثل هذا النظام في المجتمعات الغربية، فثمة ما يقبل المجتمع الغربي أن يتفصل نطقًا، وثمة ما لا يقبل به المجتمع الغربي، لكن النتيجة اللازمة لهذا النظام، هو أن الجهر بفلسطين ممنوع أو بالأحرى مقيّد، فلا يمكن الجهر بنطق عن فلسطين إلا في حدود معينة".

هذه الرسالة "العقائدية" التي تفترض خطابًا يضع المحرقة أساسًا للإيمان بها من عدمه، تصنف التشكيك فيها من باب "المحرمات المؤسسة للروح الغربية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، عالم ما بعد 1945"، فللهولوكوست مقام ديني يتمتع بكافة خصائص المحرمات أو التابوهات الدينية وأولها تحريم الشك في حقيقته وقيمته الرمزية والروحية، أو كما يصفه الخشاب "يمثل سقفًا للفكر وللتفكير وللكلام، حائط سد يقف أمام النطق ويحرم ليس فقط النطق بهرطقة تسائل المحرقة، بل تحرّم النطق بمحرمات أخرى قد تؤدي إلى مساءلة المحرقة وأولها مجموعة من المنطوقات عن فلسطين المحكوم عليها بأن تظل حبيسة الصدور بهذا المعنى".

ويوضح الأكاديمي المصري أننا قد لا نفهم ذلك الربط بين فلسطين والمحرقة من منطلق أن ثمة "أوروبيين حاولوا إبادة أوروبيين اخرين، فلماذا ندفع ثمن هذه الجريمة"؟ لكن "بالنسبة للغرب فثمة رابط منطقي، حيث تعرض الأشكيناز لظلم وإبادة، وأن ذلك كان أمرًا مرعبًا، لذلك سنخرج الفلسطينيين من أرضهم ونؤسس عليها دولة للأشكيناز، وأنتم أيها العرب والفلسطينيون لستم ذوات قيمة، لأن ذلك شأن غربي خالص، يجب أن نجد له حلًا، وإن اعترضتم، فذلك لأنكم متعصبون تعصبًا قوميًا، أو لأنكم متعصبون دينيًا، أو لأنكم لستم مهمين لأنكم في مرتبة أدنى من مرتبة الرجل الأبيض".

التضحية بقربان
يعزز الخشاب فرضيته عبر الاستشهاد بالتناقض بين استخدام الأوروبيون للفظ "الهولوكست" لوصف المحرقة وإصرار الفرنسيين على استخدام لفظ "شوا" للدلالة عليها. فالآخرون، وهم "أسود العلمانية" لجأوا إلى مفردة تعني "الكارثة" من دون أن تحمل أي بعد ديني، على عكس الهولوكوست التي تعني "التضحية بقربان عبر حرقه، وهو تعبير مستقى من التراث الإغريقي الديني، حيث كانت تطلق مفردة "الهولوكوست" على القربان الذي يحرق تقربًا إلى الله، وأعاد التراث اليهودي إنتاجه، لما كانت الجماعات العبرانية الأولى تحرق القرابين تقربًا إلى الآلهة أو الإله، ثم دخل التعبير لغات أخرى. اليوم عندما نستخدم هولوكوست للإشارة للمحرقة التي تعرض لها الأشكيناز فنحن في الواقع نستخدم مصطلحًا دينيًا".

ويضيف: "هذا التدمير يرفع ضحاياه إلى مرتبة مقدسة، بمعنى أنك عندما تحرق جسد الحيوان المضحى به، فأنت تحرق شعباً أو ما تتصوره شعباً، ومثلما كانت عملية حرق الجسد هذا تدخلاً في إطار التقرّب إلى الله في ثقافات قديمة، فعملية حرق أجساد هؤلاء البشر في القرن العشرين تمثل محاولة للتقرّب إلى إله ضد، هؤلاء النازيون كانوا يعبدون تصورًا عنصريًا، وفي سبيل ذلك يقدّم التضحيات بشرية بحرقها".

ووفق هذا المعنى للقدسية، وما تستمده من تصورات إبراهيمية عن النجاة من الكوارث؛ إبراهيم نفسه وأصحاب الأخدود في التراثَين اليهودي والمسلم، وفتية الكهف في التراث المسيحي، يصبح للناجين من المحرقة وأبنائهم "هذه القدسية. لذلك ثمة صعوبة في أن يقبل الغرب النطق بفلسطين، وأن تقول إن الفلسطيني حر، وإنه من الظلم أن تحتل دولته، وأن يباد شعبه. في الغرب تمر هذه المسألة عبر مرشحات، هذه المرشحات هي عقيدة الهولوكوست التي تضع بشرًا معينين في مقام مقدس، المقام نفسه للأضحية أو القربان. وخلاصة ذلك أننا عندما نتحدث عن المحرقة باستخدام تعبير هولوكوست أو شوا، فنحن في الواقع نستخدم منطقًا دينيا يقدس هؤلاء البشر".

ووفق ذلك المنطق الديني أيضًا، لا تختلف أوروبا في عقيدتها عن أي عقيدة متطرفة أخرى ترى أن معتنقها "شامل وعالمي، بمعنى أن خطاباته وقيمه وممارساته تمثل العالم ككل أو تمثل الكون ككل، أو أنه ينتج دائمًا خطابًا يصلح للعالم وينطبق على العالم". وحينها أيضًا "يصبح النطق بفلسطين، أي الدفاع عنها، أو الجهر بمناصرتها خروج عن الإجماع العالمي. يعني أنك كافر إن لم تؤمن ديانة تقديس المحرقة، وبالتالي تقديس مخرجاتها السياسية".

ويستشهد الخشاب على تلك الأخيرة، بما ينتظر ذلك "الكافر" جزاء "كفره" من تصفية قد تصبح أحياناً جسدية، بالحركة التي تدافع عن حرية الفلسطينيين تحت شعار "من النهر إلى البحر"، قائلًا "قرأت إن ألمانيا تعد لمشروع قانون يستهدف حرمان من يرفع ذلك الشعار من الحصول على جنسيتها، وأن بعض السياسيين قالوا بالفعل إن من يدعم ذلك الشعار سيفقد الجنسية إن حازها ويطرد من البلاد على إثر ذلك".

من النهر إلى البحر
وفي أغسطس الماضي، دِينت ناشطة في ألمانيا، بالفعل، بتهمة قيادة هتاف "من النهر إلى البحر"، وهو شعار مرتبط بحركة مقاطعة إسرائيل. وجاء الحكم بعدما قادت الناشطة، التي لم يتم الكشف عن هويتها، مجموعة من المتظاهرين في برلين خلال مظاهرة العام 2021.

إن ما يجعل هذا التصور الذي يفترضه الخشاب بعيدًا من المخيلة العربية في ظنه، هو أننا "نتصور أن الغرب علماني، لكنه ليس ذلك، حسبما تثبت كتابات الأوروبيين أنفسهم منذ السبعينات. يرى بيتر برغر إن هناك عودة للإيمان الديني وللممارسات الدينية. بالطبع قد يفهم من ذلك العودة إلى الإيمان المسيحي، لكنني أرى أن المقدّس عاد من بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وإنما في شكل دين علماني. أحد مظاهره هو ذلك التقديس الذي تتمتع به المحرقة والاستغلال السياسي لها".

لذلك، ووفق فرضية الخشاب، يصبح منطقيًا أن ينظر العالم الغربي اليوم لما يجري في فلسطين أو لبنان دفاعًا شرعيًا في حرب مقدسة ضد من يكفر بدين "حقوق الإنسان"، "لأنه مجرد أن تنتقد الاستخدام السياسي للمحرقة، فهذا يعني أنك تهاجم عقيدة مهمة، وحرام له سلطة رمزية كبيرة جدًا". وهو المعتنق الذي ربما سيسود الغرب طالما لم تشمله ثورة تقتلعه من جذوره وتنبذه اعتراضًا على ما ألحق بالبشر من خراب، غير أن مجازًا مثل "أو لم يشبع الشيطان من كل هذا الخراب" لن يصبح ذا وجاهة -ركيكًا كان أو بليغًا- هذه المرة، حيث إن ما يجري يصعب أن يحتويه أي مجاز، وإن أجابت تلك الفرضية عن العقيدة عن سؤاله أو ساهمت في فهمه.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها