الجمعة 2024/08/30

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

لماذا يزدري الفنان مهنته؟...عودة إلى الأزبكية و"منطقة الضوء الأحمر"

الجمعة 2024/08/30
لماذا يزدري الفنان مهنته؟...عودة إلى الأزبكية و"منطقة الضوء الأحمر"
الراقصة بديعة مصابني وفرقتها
increase حجم الخط decrease
ثمة نسختان من مسرحية "سكة السلامة" التي كتبها سعد الدين وهبة. الأولى أخرجها سعد أردش العام 1964، والثانية محمد صبحي في بداية الألفية الثالثة، بعدما أضاف إلى عنوانها الرقم "2000"، ورغم أن الأخير أجرى عليها بعض التغييرات، فإن بطليها ظلا كما هما في النسختين من دون تبديل، فبقيت الممثلة "مومساً" والريجيسير "قوّاداً"، وكأن 36 عاماً لم تغير شيئًا من نظرة الفنان إلى مهنته.

لا تكمن المشكلة في صورة عامة خاطئة ينظر من خلالها المجتمع المصري/العربي المحافظ إلى الفن والعاملين فيه، وإنما في نظرة الفنان نفسه إلى ما يقدمه، والتي لا يفسرها قطعًا ما يثار عن ردّة ثقافية سيطرت على المجتمع بصعود تيار الإسلام السياسي منذ السبعينات. ففي العام 1963، مثلًا، أي قبل سنة واحدة من عرض "سكة السلامة"، صاغ عبد المنعم مدبولي وفؤاد المهندس مزحة صاخبة -عابرة للزمن- في مسرحيتهما "أنا وهو وهي"، حين يسأل حمدي المحامي (المهندس) عبد التواب النمساوي البلطجي (سلامة إلياس) عن وظيفة زوجته، فيجيبه الأخير بأنها "فنانة"، فيحاول المحامي الاستفهام أكثر عن كنه ذلك الفن، فيسأل "رسامة؟"، ليتدخل ميمو صبي النمساوي فيوضح أنها "رقاصة" قبل أن يصحح له البلطجي "رقاصة محترمة من الكباريه للبيت ومن البيت للكباريه".

ولا أورد تلك الأمثلة من باب التصويب السياسي، باستدعاء نماذج من الماضي ومحاكمتها خارج زمانها وفق طقس استتابة الطبقات الوسطى التي يسعى إلى تطهر جماعي من ذنوب اقترفتها في الماضي. وإنما أبحث فعليًا عن الأسباب التي تجعل أعمالاً درامية وسينمائية تزدري صورة الفنان، والتي بغض النظر عن قيمتها تمثل فعلًا لا يقل غرابة عن طبيب يزدري مهنة الطب، أو معلّم يحّقر مهنة التدريس.

منتصف الليل في القاهرة
ربما يجيب رفاييل كورماك عن ذلك التساؤل، بصورة غير مباشرة، عبر سرديته الطويلة والمتشعبة في كتابه الأحدث "منتصف الليل في القاهرة" الصادر عن "الكتب خان" بترجمة علاء الدين محمود. ويتتبع كورماك الحياة الليلية في العاصمة المصرية منذ نشأتها الفعلية في نهاية القرن التاسع عشر وحتى صعود الجمهورية الجديدة في الخمسينيات.

لا يقدم كورماك، الحاصل على دكتوراه في المسرح المصري من جامعة إدنبرة، رصدًا زمنيًا خطيًا لتلك الحياة التي "استطاعت أن تنافس الحياة الليلية في باريس أو لندن أو برلين"، وإنما رواية يصارع أبطالها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتحقيق ذواتهم، أو ذواتهن، إذ أن غالبية أبطاله من النساء اللواتي "يستحيل سرد تاريخ الثقافة المصري، بل تاريخ مصر نفسها، من دونهن"، وفي مقدمتهن فاطمة رشدي وعزيزة أمير وروز اليوسف ومنيرة المهدية وأم كلثوم وبديعة مصابني وتحية كاريوكا... لكن الباحث البريطاني لا يتتبع سِيَرهن عبر أرشيف الصحافة المصرية فحسب، كما يفعل العديد من الباحثين المصريين، وإنما من خلال الوثائق الرسمية ومحاضر الشرطة والصحف الغربية وكتابات الرحالة والمستشرقين والفنانين الذين زاروا مصر في تلك الفترة.

وفي خضم تلك الرحلة التي تتسع لـ397 صفحة من القطع الكبير، يمكن قراءة العديد من محددات الذوق العام المصري وتطوره الطبقي، وكذلك المعارك التي خاضتها بجرأة كل رائدة من رائدات ذلك الكتاب. الأمر الذي يبدو معه صعبًا التعرض باختزال إلى المحطات الرئيسية في تلك الرحلة، لكنه لا يمنع في الوقت نفسه من البحث عن إجابة لسؤال مثل "ازدراء الفنان مهنته"، الذي تُوجب الإجابة عليه تتبع الحكاية، كما رصدها الباحث في جامعة كولومبيا، الحكاية التي بدأتها "حركة نسائية موازية، حدثت في طبقة النساء المشبوهات".

منطقة الضوء الأحمر
بحلول نهاية القرن التاسع عشر كانت الحياة الليلية في القاهرة تتركز في حي الأزبكية الذي يضم "ما لا يقل عن ثلاثة عشر مكانًا ترفيهيًا كبيرًا وعددًا لا يحصى من البارات والمقاهي الأصغر. كان العديد من هذه الأماكن يقدم عروضًا للمغنيات أو الراقصات في غرفة مليئة بالدخان والخمور، كما كانت تضمّ صالات للقمار وأوكار للحشيش وغير ذلك". ووفق ذلك المعطى تركّز نشاط بيوت الهوى في شارعي "كلوت بك" و"وش البركة" اللذين صارا شارعين للبغاء أطلق عليهما لاحقًا "منطقة الضوء الأحمر".

كان المسرح المصري في بداياته محرّماً على المصريات المسلمات، ولم يستطع كسر ذلك المحظور سوى أبناء الجاليات الأخرى التي كانت تعيش في مصر، سواء كن أجنبيات أو من ديانة أخرى، حتى وقعت في الأزبكية حادثة غيّرت ذلك كله تمامًا.

في العام 1915، قام نحو 500 جندي بريطاني وأسترالي بمهاجمة منطقة الضوء الأحمر، انتقامًا لتعدي العاملين فيها على زميل لهم، فأحدثوا ما يشبه المذبحة. وفي أعقاب ذلك الدمار، عقدت السلطات العسكرية العزم على فرض النظام على المدينة، وفي نهاية يونيو/حزيران من تلك السنة، أصدر قائد القوات المسلحة البريطانية في مصر، الجنرال جون ماكسويل، قرارًا يحظر على البارات والنوادي الليلية "تقديم الكحول في أي مكان بعد الساعة العاشرة مساءً"، وكذلك "إغلاق أي مكان يقدم الكحول بأي شكل بحلول الساعة العاشرة مساءً". هكذا، فإن منيرة المهدية، التي كانت تقدم عروضها بعد ذلك الموعد وتسبب القرار في إغلاق ملهاها "نزهة النفوس"، م تجد حلاً سوى أن تنتقل إلى المسرح، في حدث مثّل تحولًا في التاريخ. كانت تلك المرة الأولى، كما يقال، التي تمثل فيها امرأة مصرية مسلمة على خشبة المسرح".

"سلّم العار"
كان هناك خليط معقد من أماكن الترفيه المختلفة في الأزبكية، وأدى انتقال منيرة من التياترو (الكباريه) إلى المسرح، إلى ظهور ما يسمى بـ"سلّم العار الهرمي"، حيث "تربع المسرح المحترم على قمة السلّم، تليه التياترات الأكثر فجورًا، ثم استقرت بيوت الدعارة في الدرجة السفلية". ورغم أن الطبقة المثقفة بررت العمل المسرحي بأن "هدفه تعليمي وترفيهي على حد سواء"، وجادل كثر منهم بأن "المسرح من شأنه تحسين الأخلاق في البلد من خلال إعطاء الناس نماذج صالحة ليتبعوها أو من خلال إظهار نوع السلوك السيء الذي عليهم تجنبه"، فإن ذلك لم يُحدث أثرًا عميقًا في نفس المتلقي الذي كان ينظر إليه بمثل ما كتب أحد الصحافيين في ذلك الوقت: "المرسح المصري معدوم من الكفاءتين الأخلاقية والفنية ويكفي أن يكون بعض أصحاب الاسم الفني من الأميين الذين يجهلون القراءة والكتابة ومن الذين تمرنوا على الجوع والعري ومن الذين شغلوا مناصب الخدمة في اللوكاندات، وتضم الأجواق مئات العَطَلة ومفسدة الأخلاق... ولا حرج عليك أن تنفحه بكأس ويسكي أو شمة كوكايين أو شلن".



أضف إلى ذلك، الصورة النمطية التي أراد الاحتلال حصر الشرق فيها، وتحديدًا مصر، وسعي الطبقة المثقفة التي صارت تتشكل مع نهاية القرن التاسع عشر في تفنيد تلك الصورة كشكل من أشكال مقاومة الاحتلال، ويظهر في موقفهم من الرقص الشرقي الذي كان يستخدمه الغرب "لتصوير مصر على أنها بلد متخلف مفرط في الجنس وخليع". فبالنسبة لأولئك الذين أرادوا إيصال بلدهم إلى العالم الحديث، "مثّل الرقص الشرقي الانحطاط وليس التقدم"، وهو ما أدى إلى حظر الشرطة المصرية للرقص في 1916 لأنه "لا يتفق مع الآداب والعادات الشرقية في شيء".

منيرة المهدية تهدد باعتناق المسيحية
اللافت في ذلك الأمر أن الموقف المجتمعي من الفنانين لم يكن ذا بُعدٍ ديني. ففي العام 1925 أصدر شيخ الأزهر فتوى يقول فيها إن المسلمات اللواتي ظهرن غير محجبات في المسرح قد ارتكبن بدعة، لكن تصريحه لم يلتفت إليه كثيرون، على العكس أبرزت صحيفة "نيويورك هيرالد" تصريحاً لمنيرة المهدية زعمت فيه أن "لو أجبرتها السلطات المسلمة... على احترام (الفتوى) فإنها ستتحول إلى المسيحية"، وقوبلت تصريحات الأزهر اللاحقة بردود أفعال رافضة مماثلة من قبل صنّاع الترفيه. فبعدما اشتكى علماء "من مسجد وجامعة الأزهر في أوائل الثلاثينيات أن شيخًا سُمع يقرأ القرآن بلكنة تركية في فيلم ما، هاجم مراسل متخصص في المسرح في الصحافة المصرية توجههم الرقابي واتهمهم بأنهم يظنون أنهم وحدهم من يتحدث باسم الإسلام، ونصح مشايخ الأزهر بأن يتذكّروا أن الصمت من ذهب".

الحق على جمهور بملابس مكشوفة
تكمن المشكلة الرئيسية في ظني في الموقف الدفاعي الذي اتخذته طبقات "هرم العار" سالف الذكر، وكذلك الموقف الذكوري للمجتمع الذي أراد في الترفيه عن نفسه شيئاً من الفجور. ففي حين "أصر الممثلون والممثلات أنهم ليسوا مغنيات أو راقصات كباريهات؛ وأصرت مغنيات الكباريهات والراقصات أنهن لسن عاهرات، كانت الحواجز بين الثلاثة أكثر مرونة مما أراد الكثيرون الاعتراف به، فاستغلت الفرق المسرحية المغنيات والراقصات لإغراء الجماهير. وفي صالات الرقص، ربما كانت هناك ضغوط من الزبائن الأثرياء الذين كانوا يتوقعون أن الراقصات ستقابل كرمهم بخدمات جنسية. لكن الجهود المبذولة للتأكيد على احترام المنطقة لاقت آذانًا صماء، وبحلول تسعينات القرن التاسع عشر، باتت الأزبكية معروفة بنسائها المشبوهات سيئات السمعة قدر شهرتها بدار الأوبرا أو المسارح".

وهو موقف يعكسه مثلًا ما كتبته الممثلة مريم سماط، وهي إحدى النساء اللواتي تقدمن لأدوار البطولة المسرحية باكرًا، حين دافعت "عن شرف زميلاتها الفنانات جزئيًا" بإلقاء اللوم على النساء اللواتي جئن لمشاهدة المسرحيات بملابس مكشوفة: "لم يكن الذنب إذ ذاك ذنب دار التمثيل ولا القائمين بالعمل فيها وإنما كانت التبعة في ذلك على إفراط الأوانس في تبرجهن. ومغالاتهن في سفورهن وزينتهن مما كان يلقي الشك والريبة في خلد الصالحين من الأدباء ويوقع البشر والسرور وأفئدة ذوي القلوب المريضة من عشاق الغزل وفساق النظر". وذلك في وقت مثلًا قام فيه يوسف وهبي بصنع فيلم قصير عن قُبلة جمعته بفاطمة رشدي في إحدى المسرحيات، وكان يعرضه على شاشة بين فصول عروضه التالية.

ربما يقرب الصورة أكثر، موقف أم كلثوم. فتبرّؤها من أغنية "الخلاعة والدلاعة مذهبي" ومن كل فعل يبتعد بها عن صورة "المغنية التي تقرأ الكتب في وقت فراغها"، لم يمنع القساوسة الإنجيليون المصريون من الاعتراض الرسمي على بث حفلاتها الموسيقية في قاعة إيوارت بالجامعة الأميركية في القاهرة، ومطالبة الجامعة بوضع حد "لمثل هذه البرامج من ضمنها تلك الأغاني ذات الطبيعة التي تجذب المشاعر المنحلة"، على اعتبار أن ظهور أم كلثوم في الجامعة الأميركية بالقاهرة "يجلب العار للمسيحية في بلد مسلم".

روز اليوسف "تخلع" طلعت حرب
في أحد أيام الصيف، نزلت روز اليوسف إلى بحر الإسكندرية مرتديةً ملابس السباحة، من دون أن تعلم أن السياسي القومي والمحافظ طلعت حرب، والممول الرئيسي لفرقتها المسرحية، يقف إلى جوارها على الشاطئ. كان طلعت حرب الداعم المالي الذي لم ترغب أي فرقة مسرحية أن تخسره، وكان أيضاً من أبرز المعارضين لمشاركة المرأة في المجال العام. لذلك، وعندما رأى إحدى أعضاء فرقتـ"ـه" تعرض نفسها وهي ترتدي ملابس السباحة أمام الجميع، طالبها على الفور بالتستر أو طردها وإعادتها إلى القاهرة. حاول عدد من الأصدقاء في الفرقة التوسط، "قالوا لها إنها لو اعتذرت فقط، فسيمكن تهدئه الأمر. وقالت روز بلا هوادة إنها لن تعتذر (....) قالت إنها تفضل ترك الفرقة على الفور حتى تتمكن من قضاء يوم كامل على الشاطئ. وهو بالضبط ما فعلته، بينما كان المصرفي الحكيم ينظر إليها. في الواقع، مكثت روز لبضعة أيام أخرى بعد مغادرة الفرقة، وجلست على الشاطئ مرتدية ملابس السباحة لمجرد مضايقته. وبعد ذلك الحادث بسنوات قليلة، سترى روز اليوسف بينما تستقل الترام ركابًا يشعرون بالحرج ويخفون مجلتها وسط مطبوعات أخرى "حتى لا يعرف أحد أنهم كانوا يقرأون محتواها الذي قد يكون غير لائق"، لكن إصرارها على ما تقدمه من دون تراجع جعل مطبوعتها الأهم بين الصحف المصرية حتى فترة قريبة.

وفي منتصف مايو/أيار 1958، حظر "رئيس قسم الآداب العامة" على الراقصات ارتداء ملابس كاشفة، فاجتمعن على الفور للاحتجاج وفي مقدمتهن تحية كاريوكا، التي قالت في مقابلة صحفية "لن يعود الرقص المصري نفسه بعد الآن. كل السحر والجمال والفن سيختفي، سيُقتل. هذا القانون الظالم السخيف يفرضه أشخاص ليسوا فنانين ولا يفهمون شيئًا عن الرقص أو الفن". أثارت الراقصات عاصفة بسبب هذا القرار لدرجة أجبرت مكتب الآداب على التراجع عنه. وفي اليوم التالي، لما كان من المفترض أن يدخل الحظر حيز التنفيذ، ظهرت تحية كاريوكا "أمام مجموعة من الزوار والدبلوماسيين المهمين بملابس كاشفة تمامًا".

ربما خرج الممثلات والمغنون المصريون أول ما خرجوا من الأزبكية، أو من حي "الضوء الأحمر"، لكن مَن ثبت منهم على موقفه المتحدي للأعراف وللصورة النمطية، هو مَن استطاع إجبار المتلقي على احترامه.

ربما نبعت عملية تكوين الصفوة المصرية الجديدة من "إرادة الحاكم واتسمت منذ البداية بالروح التسلطية. (...) ومن دون بنية إيديولوجية أو سياسية تساند نموها"، كما يقول الباحثان "محمود حسين" (الاسم المستعار المشترك الذي اختاره المفكران المصريان بهجت النادي وعادل رفعت، بعد استقرارهما بفرنسا في نهاية الستينيات)، في كتابهما "صحوة المحكومين في مصر الحديثة"، لذلك لم تستطع تلك التجارب الفردية وحدها أن تغير صورة تواضع عليها الزمن منذ ما يزيد على قرنين من الزمان، حتى صار الفنان يزدري وظيفته والفن كله، ليتبرأ منها من دون أن يعرف شيئًا عن أسباب تكونها، أو الحي الذي نشأت فيه، أو أي من رائدات الفن دافعن عنه رافضات الاصطفاف في "هرم العار المزعوم". نسي جهله كله، ولم يرسخ في وعيه غير دفاعه العقيم عن "ذَنبه".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها