فتنني كتاب "يوم الجمعة، يوم الأحد" منذ صفحاته الأولى. أنا المولع آنذاك بإعادة إحياء الماضي، مختلساً منه نتفة من هنا ونتفة من هناك، وجدت نفسي، مع هذا الكتاب، أمام إحياء مدينة كاملة.
لم أقرأ من قبل سيرة لأي من مدننا، لتفاصيل عيشها وتعاقب الزمن عليها، مثلما في هذا الكتاب. ذاك أنه ليس كتاباً في التاريخ فحسب، أو في الأنتروبولوجيا، أو في علم الإجتماع، أو حتى في ملاحظة ما يتغيّر في المشهد، سواء المشهد العام للمدينة، أو المشهد التفصيلي لحي من أحيائها مثلاً، أو لواحد من بيوتها، أو لرجل من أهلها...إلخ. ما يفتن في الكتاب هو حميمية الذاكرة وأوجاعُها وانكساراتُها المغلِّفة لكل ما حرص خالد زيادة على تذكّره وتدوينه. وإذ أجيء إلى وصف ما أبقاه الكتاب فيّ بعد تلك السنوات على صدوره (1994) أراني مشبّها ذلك باستعادة لحن هادئ، مثير للحزن والإمتنان معا. وهذا ما تفعله الروايات فينا على أي حال، إذ تبدو كأنها تحتفل في ما هي ترثي الفقدان أو الفوات.
ثم إنّ في كل تذكّر ظلّ من الرثاء لا يخفى. وهنا، في هذه الثلاثية، نحن إزاء رثاء مترجّع طالما أن المدينة هذه لم تتوقّف عن التغيّر. وليبدأ هذا الرثاء مما يسميّه خالد زيادة التاريخ الداخلي القديم للمدينة، ليصل إلى ما بعد تلك اللحظة التي "كانت تشهد هدم آخرِ ثلاثة معالم كولونيالية"، كما يذكر في التمهيد للكتاب، بل كما يضيف حين يقول إن "أعمال التدمير تطال أيضاً المباني التي كانت رموزا للتحديث".
ولا أراني باذلاً جهداً لأعرف إن كان الكتابان اللذان أعقبا "يوم الجمعة، يوم الأحد"، في حسبان كاتبهما ومخطّطه منذ بدئه كتابة الكتاب الأوّل "يوم الجمعة، يوم الأحد". لا أدري إن كان قد خطّط مسبقاً للكتابين اللاحقين من الثلاثية، وهما "حارات الأهل، جادّات اللهو" الذي صدر بعد ذلك بسنة (1995) ثم "بوابات المدينة والسور الوهمي" (1997). فما أفترضه هو أن العالم الذي أحياه الكتاب الأوّل في ما هو يتذكّره أو في ما هو يرثيه، هذا العالم لم يتوقّف عن الإتساع، في مخيّلة الكاتب كما في مخيّلاتنا، نحن من قرأنا الكتاب.
ما جعلني، بل ما جعلنا نحبّ هذه الثلاثية، بكتبها الثلاثة، هو رؤيتها تلك المدينة المتوسطية بالحساسية الشعورية والفكرية التي شكّلت وعي جيلنا. أقصد أن الثلاثية كتبت شعريتها من اللحظة الشعرية التي كان قد بلغها الشعر آنذاك، كما استحضرت روائيّتَها من اللحظة التي بلغتها الرواية، كما استلهمت ما قد صار راهنا آنذاك في كتابة السير وفي النظرة إلى عمران المدن. تلك اللحظة الحية كان خالد زيادة قد بلغها في كتب له سبقت، كمثل ما يدلّ إليه هجسُه بـ"اكتشاف التقدم الأوروبي" وهو عنوان كتابِه الأول الصادر في 1981، ثم "تطوّر النظرة الإسلامية إلى أوروبا" (1986). ولا أنسى كتابَه الجامع، لمرّة أخرى، بين التاريخ والرواية، "حكاية فيصل" الذي، منذ أن قرأته في 1999، ما زلت أرى الأمير فيصل في ذاك القطار المتوقف على أبواب دمشق منتظراً، إلى الآن، أن يؤذن له بدخولها من أجل أن يكون راكبُه ملكاً على سوريا.
لا ينبغي أن أغفل عما تركه خالد بين الكتاب والمثقفين المصريين. لكي لا أطيل أقول إن بين ما أطلق عليه من ألقاب هناك لقبَ "مثقفّ القطرين" على غرار ما كان خليل مطران "شاعر القطرين". من أشهر قليلة كنت هناك واستمعت إلى كثيرين من كتاب مصر ومثقفيها يقولون إنه الحاضر في كل لقاء أدبي أو فكري. أما بيته في القاهرة فكان مكاناً لالتقائنا بمن نحبّهم من أدباء مصر. وأيضاً، في ما خصّني، كنت أقول هناك في مصر، كما هنا في لبنان، إن سعادة السفير هو صديقي.
* ألقيت هذه الكلمة التحية في حفل تكريم الكاتب خالد زيادة الذي انعقد عشيّة أمس الجمعة بدعوة من "الحركة الثقافية" في أنطلياس.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها