لا أعرف كيف وجدتني جالساً في مسرح الكريستال تلك السنة. ربما كان ذلك واحداً من تطوافي في المدينة التي سبق وجودها وجودي فصرت، لكي أكبر، أتردّد إلى الأمكنة التي يكون فيها الناس كباراً. لكي نكبر عن عمر الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، كان علينا أن نرجع إلى من سبقوننا إلى كونهم كباراً. أن نتقدّم بخطوات جريئة لكن محاذرة نحو ما هو حاضرهم أو ما يحملونه من ماضيهم. ربما كانت هذه ميزة المدن القديمة، أن يكون لأماكنها، ولأسماء أماكنها خصوصاً، ذلك الوقع الذي لا اكتمال ولا نضج للفرد الشاب، أو المقبل على عمر الشباب، من دون ارتياده أو، على الأقلّ، معرفة ما يحصل فيه، أو ما كان قد حصل فيه.
ربما لهذا كان الشبان في زمن الستينات ذاك متعلّقين بماضي مدينتهم، إذ كان ذلك سبيلهم المتعجّل إلى بلوغ رجولتهم. ذلك العالم الذي لا يتجدّد، الباقي على حاله والمنهك بقدمه، كان ما يزال قادراً على إغوائنا ومتحدّياً إيّانا بتلويحه بأسماء أماكنه في وجوهنا. كنا نقصد مقهى الأوتوماتيك في طلعة باب ادريس فقط لكي نشعر بأنّنا كبار هناك، مثلما هم كبار أهلنا، أو على الأصحّ، رفاق أهلنا. آنذاك، في ذلك الزمن، لم يكن يفكّر أحد بابتكار مُوَض وأدوات تسلية وكافتريات خاصة تناسب عيش الشباب الصغار. لم تُعدّ أمكنة خاصة للهو من هم في السادسة عشرة. حياة الشباب، بل وفكرة أن تكون للشباب بيئة خاصّة بهم، إختراع حدث بعد انقضاء عقدين من ذلك التاريخ. لوا سينما آنذاك خاصة بذلك العمر ولا كتباً تُكتب له، ولا حتى ألبسة تخاط له ليتميّز بها من يرتدونها. كنّا نلبس الموديلات التي لأهلنا. أنا كنت ألبس الثياب المصمّمة على نحو ما هي مصمّمة ثياب أبي: قميصاً مثل قميصه وبنطلوناً مثل بنطلونه لكن بقياس يناسب عمري. وأذكر أنّه اصطحبني مرّة إلى خيّاط كان مشغله في الطابق الخامس من المبنى المواجه للجامع العمري، وذلك ليأخذ مقاساتي لبدلة أبدتني في صبيحة يوم العيد، مع قبّة قميصها وربطة عنقها، في هيئة رجل صغير. كان عمراً ضائعاً ذاك الذي بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة، عمراً يحتار من هم فيه على أيّ سبيل ينبغي أن يكون عيشهم. ما كان علينا فعله هو أن نكبر فحسب، أو أن ننتظر الكبر. هذا بالضبط ما دفعني في 31/12/1965 إلى الذهاب مع رفيق لي اسمه جابر لدخول ذلك السوق ذي الأسماء الكثيرة. لم أكن قد بلغت السادسة عشرة بعد، لذلك كنت مسلّما قيادي لجابر الذي يكبرني بسنتين أو ثلاث. منذ الخطوات الأولى التي تعدّيت بها مطعم السندويشات ذاك كنت أغالب خوفي بتوهّم شجاعة أمدّ نفسي بها من تذكّري مواقف أبطال شاهدتهم في السينما. لكن، وعلى الرغم من غلبة الوهم في ذلك على الحقيقة، رحت أراني متلفّتا حولي، وأنا هناك في داخل السوق، ناظراً إلى النساء العارضات أنفسهنّ، والمنصرفات في الوقت نفسه إلى أشياء تشغلهنّ. وربما ضحكتُ مرّة أو مرّتين لتعليقات كان يقولها جابر بصوت تقصّد أن يكون مسموعاً منهنّ. لكنّني، في تلك الطريق التي أوقفتني عند ذلك المبنى، كنت أختبر مشاعر كثيرة متناقضة تأتيني متلازمة في وقت واحد. وقد تركت لجابر أن يتكلّم عني، هناك في الطابق العالي، أن يقدّمني لتلك المرأة التي لم أعطَ الوقت الكافي لأعرف إن كانت تروق لي، وأن ينتظرني في الخارج حتى أجري إختبار رجولتي الأوّل، مسلّما نفسي لخبرة المرأة الموشكة على بلوغ الأربعين.
* فاصل من مذكّرات بيروتية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها