فيلم جديد لمحمد خان. حدث مهم. لا نملك سوى المحبّة لمخرجين مثل داوود عبد السيّد، ومحمد خان وحتى خيري بشارة. في "فتاة المصنع" لا يفتقر خان إلى العذوبة. سرد الواقع بلا تدخّل لتوجيه المشاهد. لكنه يفتقر إلى أهم أسلحته في أفلامه المهمّة مثل "زوجة رجل مهم" و"الحرّيف" و"خرج ولم يعد" وحتى في "شقّة مصر الجديدة" و"بنات وسط البلد"، إنه لم ينسَ أبداً وهو يقدّم تجاربه المهمّة عنصري الإمتاع والتسلية، وهو ما يفتقر إليه "فتاة المصنع". إضافة إلى سلاحه الثالث الذي لم يستخدم هنا: الاقتصاد في التعبير، الحكي دون ترهلات.
لا يهمّ.. فيلم محمد خان، استطاع على الأقل أن يخرج من دائرة شروط السوق، بحلول إنتاجية مهمّة تعتمد على وجود دعم من جهات مانحة.
يستعيد خان ما سرقته "سينما السبكي" الناجحة، الحديث عن الفقراء. في "سينما السبكي" هم على زيفهم أكثر سحراً وقدرة على الانتصار، أقوى وأبهى، لا أحد يعلم أين يكمن أصلاً وعد السينما السحري: أن تقدّم الحقيقة أم أن تمنح الحلم؟ أن تزيّفها حدّ الابتذال الناجح، أم تقدّمها كحقيقة بلا إيقاع يجذبك. الفارق بين "ثمانينات خان"، وما بعد الألفية أننا كلّنا صرنا كذلك بشكل أو بآخر. الطبقة الوسطى، انضمت إلى الشريحة الأوسع مما استطاع الفقر أن يسحقه، هو الخيط الخفي في فيلم خان، إن جاز لنا القراءة، من خلال شخصية المهندس صلاح، الذي تحبّه بطلة الفيلم وأدّت دورها ياسمين رئيس والتي تعمل مع "العبيد" في مصنع للملابس. لم يعد ابن الطبقة الوسطى، بطلاً، كما في "خرج ولم يعد ". لم يعد أملاً، لكنه عالة ربما، تتوهّم فتاة المصنع أنه أملها، أنها هكذا تنظر إلى أعلى عندما تقع في غرام المشرف عليهن في العمل، بينما يعيش "الباشمهندس" في حالة إنكار للفروق الذائبة حقاً، لكونه مجرد "نذل" يتوهّم تفوقه.
الرجال في فيلم "خان"، أنذال، عصبيون، كسالى، طائشون، بلا عمل حقيقي سوى الوصاية. بينما سيدات الفيلم يركضن دوماً، يعملن دوماً، يحملن قدرة على الابتسام والضحك والمواجهة. طاقة هشة تملك القدرة على المواصلة، لكنها لا تضمن ألا تدهس. حياة بطلة الفيلم القائمة في الأساس على الوهم، سحقت بسهولة في أقل من إشاعة عن بكارتها، وفي أقل من محاولة للنظر إلى أعلى. حياة كانت ترتكن إلى وعد "سعاد حسني الغامض" بالحب، وانتهت إلى كارثة ومحاولة انتحار، ونصف انتصار في النهاية بالوقوف كامرأة صامدة وجميلة وتستطيع الابتسام في وجه قاتليها.
سعاد حسني هي الخيط الواصل وطلقة البداية للأحلام في الفيلم، التي بانتهاء تقاطع أغانيها مع حياة البطلة، يبدأ الواقع في سحقها، بينما كل ما كانت ترغب فيه قبلة طيّبة كقبلة سعاد حسني على السلم لشكري سرحان في فيلم "السفيرة عزيزة". يخرج خان هنا من دائرة النوستالجيا إلى أسئلة سينما كانت تستطيع أن تصنع سحر الحلم السينمائي، وأن تكون في الوقت نفسه أكثر شجاعة في مواجهة أسئلة الواقع وتحفيزه إلى الخروج عن نمطيته وصوره المعلبة، على الأقل في صورة سعاد حسني، التي كما يقول رسام الكاريكاتير قنديل: "فشلت تلك الأفلام نفسها في حماية سعاد حسني من براثن مجتمعها الذكوري الفاسد ورموز نظام مبارك ".
لا وعود بالحماية، لا وعود بالانتصار، سوى البقاء حياً ومبتسماً في وجه "أنذال" يأكلونك حياً. النساء التي مثلت أدوراهن سلوى خطاب وسلوى محمد علي بأداء بديع ومرعب ويدفع للأسى على استهلاك تلك الطاقة في مسلسلات الفيديو التي لا تملك القدرة على الحياة كالشريط السينمائي، يملكن القدرة على تنميط الفتاة لحمايتها، والتوحّش في حالة خروجها عن النمط، لكنهن يملكن القدرة أيضاً على التوحّش الحق في حمايتها من الدهس.
هي لا تعيش حياة أصلاً، طعام رخيص، ملابس لا تخص حياتها ولا تصنع لها جمالها الذي تتمنّاه، حياتها التي تكتشف في لحظة أنها تتمحور حول قطعة جلد في جسدها (لم تفقدها في الحقيقة) فكل ما حصلت عليه هو قبلة عوقبت عليها عقاباً جماعياً. من صاحب القبلة ومن صديقاتها المقربات. من الأم والخالة ورجال العائلة. من الجدّة قاسية القلب، التي لم تتورّع عن قصّ شعرها، حتى بعد الاطمئنان على أن قطعة الجلد في مكانها. جسد معاقب على الحلم. لقد خرجت عن النمط، لا يحدث هذا مع فتاة المصنع، حملات العقاب الجماعي تطارد كل من يحاول الخروج أو الحلم في مصر.
تكسب السينما فيلماً خارج إرادة السوق، وخارج "نجاحات" السبكي. تكسب ممثلة جيدة كياسمين رئيس، وحماية لمحمد خان من "التكلّس". فرحنا بفيلم خان العادي، دليل بؤس وإشارة أمل بإمكانية الخروج من مثلث أفلام الراقصة والبلطجي والإيفيه الرائجة.