يكاد العود والكمان يحتكران نجومية عازفي الموسيقى العربية. فقلما يعرف غير المتخصص اسماً لعازف رق أو ناي أو تشيللو. وباستثناء قيادة أحمد فؤاد حسن ـ قائداً للفرقة الماسية، ومحمد عبده صالح ـ قائداً لفرقة أم كلثوم، يندر أن نتذكر اسم عازف قانون، رغم حضور محي الدين الغالي المطول في البرامج التلفزيونية خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ورغم شهرة التركي آيتش فترة من الزمن وتحوله موضةً في توزيع الأغاني المصرية قبل أكثر من عقد.
رحلت عازفة القانون اللبنانية، إيمان الحمصي، الأربعاء، ويبكيها اليوم كثيرون ممن يعرفونها، ويدركون عمق العذوبة التي كانت تشع من أناملها. فإيمان كانت استثناء محدوداً للتجاهل آنف الذكر. فمن خلال عملها مع فيروز ومارسيل خليفة وشربل روحانا وأميمة الخليل وريما خشيش، فضلاً عن مشاركتها في فرق موسيقية لبرامج تلفزيونية غنائية، وحفلاتها المختلفة منفردة أو مصاحبة، كوّنت ايمان الحمصي شهرة لا بأس بها على مستوى لبنان. ولئن كان اسمها شبه مجهول لدى كثيرين خارجه فإن صورتها وصوت قانونها كانا أليفين على امتداد الأرض العربية.
قد تكون لضعف نجومية العازفين، باستثناء العود والكمان، أسباب فنية (القدرة على إنتاج صوت متفاوت القوة والحنان، فضلاً عن الإيقاع الداخلي و"الغناء" بالجملة الموسيقية بالشكل الأقرب إلى الصوت البشري، سهولة الارتجال والتنقل المقامي،...)، وأخرى اجتماعية (كون هاتان الآلتان أكثر انتشاراً وأرخص ثمناً من القانون والتشيللو عموماً). إضافة إلى الإلفة التي تجعل المتلقي قادراً على الاستماع إليهما لمدة طويلة من دون أن تكل الأذن، وهذا ما أدى إلى احتكار العود أولاً، ثم الكمان، خلال الفترة الزمنية الأقرب إلينا، أدوار الصولويست المنفرد في الحفلات. وقد يكمن سبب آخر في أن العود والكمان يتيحان للعازف إبراز مهارته للعيان (وليس للأذن وحدها)، بخلاف الناي مثلاً. لذا كان حريّاً بشغل إيمان الحمصي وشفافية صوت آلتها أن يبوءاها مكانة فريدة كعازفة صولويست نجمة، بدل أن تنبع نجوميتها من كونها امرأة على آلة غلبت الذكورة على أسماء عازفيها.
الإصبع العاري
التمكّن التقني للراحلة سمح لها بالارتجال والتجول بين الأنغام. كما عملت طويلاً على فكرة "الغناء" بالجملة الموسيقية، ما يتضمن تطوير تقنيات من العفق والتلاعب الايقاعي، فضلاً عن استخدام إصبع عارٍ حنون بدل الريشة القاسية لتغيير نبرة القانون الثابتة غالباً. بل إن عاملاً واحداً كان حرياً بمنحها شهرة واسعة: تطويرها لتقنية العزف بالأصابع العشرة (ثمان ريشات في الحقيقة وبُنصران عاريان لصوت أرقّ)، مستفيدة من أنها أيضاً كانت عازفة بيانو. بل إنها طورت هذه التقنية انطلاقاً من تطبيق مقطوعات لتشيرني وشومان (وهو تطوير حقيقي، وليس تحايلاً على المستمع أو تزييفاً لفكرة كما فعل عازفون كثيرون بحثاً عن الشهرة). غير أن رقّة إيمان الحمصي وترفّعها عن المهاترات والخدع التلفزيونية والبحث عن الانتشار بأي ثمن، كلها عناصر منعتها من التحول إلى نجمة، وإن لم يمنعها ذلك من أن تكون مصدراً لإلهام الكثيرين، والكثيرات، عازفة وأستاذة في المعهد الوطني للموسيقى.
كتبت إيمان عدداً قليلاً من المؤلفات، وصلنا بعضها عبر القرص المدمج الوحيد الذي أصدره لها معهد العالم العربي في باريس (السيد قانون) العام 2008، أو في حفلات رُفعت أجزاء منها على "يوتيوب". وقد ذكرت في بعض أحاديثها أنها كانت تسعى إلى إنتاج ألبوم ثانٍ... فعسى أن يحترم المنتجون ذكراها ويصدروه بما يفي بالمتطلبات الفنية التي كانت تلتزم بها. وفي مثل هذه المؤلفات، اشتغلت إيمان غالباً على استخدام تقنية الأصابع العشرة، مثلما سعت إلى تجسيد صور ذهنية أو شبه مسرحية (حوار بين البابا والماما، ترنيمة لبنتها سارة)، وقدمت عدداً منها في حفلات، إلى جانب تقاسيم ومؤلفات لآخرين اعتمدت فيها التقنية التقليدية وانفتحت على الموسيقى المتوسطية من اليونان وبلغاريا وسواهما.
والفرق بين التقنيتين يبرز لأذن المستمع المتابع لعزف إيمان الحمصي، إذ تبدو العازفة تقليدية محافظة عند استخدام التقنية الموروثة، فلا تستدخل مفاجآت مقامية أو خلايا نغمية غير مألوفة، فضلاً عن كون إيقاعيتها العزفية وتقاسيمها مطربة، من دون أن تخرج على إطار ما تعوّد عليه المستمع. في حين أنها، في تقنية الأصابع العشرة، حاولت إضافة التآلفات المتتابعة الإيقاعية والكونتربوان (أو الجمل المتعارضة)، والبوليفوني (أي تعدد الأصوات)، إلى الجملة الموسيقية الميلودية المفردة التي تؤديها. لكن، رغم تفوقها في تطبيق هذه الأفكار على آلتها، استوجب التوسع في ذلك واقتراحه جدّياً لطراز جديد من العزف على آلة القانون، كتابة مؤلفات موسيقية بخطوط لحنية تستوعب هذا التطور التقني الذي أدخلته الحمصي، وهذا لم يحصل للأسف، وهي لم تكن قادرة على إنتاجه خلال زياراتها العابرة إلى عالم التأليف الموسيقي.
حقّها في الشهرة
لم تنل إيمان الحمصي حقها من الشهرة، لكنها نالت الكثير من محبة عشاق فنها ودماثتها الفائضة. وإلى لطفها الدائم وابتسامها المرحّب، حرصت دوماً على إبداء الوفاء لأستاذها محمد السبسبي، العازف اللبناني صاحب التقاسيم المدهشة ورنة القانون المتميزة (لم أعثر إلا على اسطوانة وحيدة له من العام 1974 فضلاً عن تسجيلات في منتديات موسيقية على الانترنت)، فسجّلت له في أحاديثها دائماً فضله عليها، مثلما سجلت له مقطوعة "الربيع" مستخدمة تقنيتها الجديدة لجذبها نحو آفاق أخرى. والوفاء لها هي الآن يستلزم الحرص على نشر الألبوم الثاني الذي كانت تعمل عليه، وحفاظ طلابها على تقنيتها الفريدة، والتواصل مع مؤلفين موسيقيين لكتابة مؤلفات خاصة بهذه الآلة وبهذه التقنية.
لا شك في أن استدخال خلايا نغمية مغايرة للمألوف التقليدي، على غرار ما فعل محمد عبد الوهاب مستلهماً الموسيقى الأوروبية، يؤدي إلى تغيير في طبيعة وجماليات الموسيقى التي تنقل إليها هذه الخلايا المستنسخة. وإدخال تقنية جديدة سيُفضي إلى مثل ذلك إن لم يفُقه، مثلما حصل مع ادخال العُرَب إلى القانون ما سمح بإجراء تنقلات مقامية غزيرة بدل الحاجة إلى إعادة ضبط القانون أو إلى العفق الكثير بالإبهام الأيسر في مواضع التحويلات المقامية (وهو ما كان يتخوف منه عازفون تقليديون، مطلع القرن العشرين، مثل محمد العقاد). غير أن حديقة الموسيقى تتسع لأزهار كثيرة، واقتراح موسيقى مشرقية بوليفونية أو هارمونية قادرة على تحقيق موارد التقنية التي اقترحتها إيمان الحمصي، لن يُذبل العزف الموروث ولا ما بقي من موسيقى طربية أماتتها السوق التجارية. تقنية الراحلة إيمان الحمصي قادرة على إثراء هذه الحديقة بألوان جديدة، يظل فيها عبقها... هي من كانت الأرقّ والأشفّ بين العازفين والعازفات، وصاحبات الأنامل بوردات عشر.