ربما كان الأمر مصادفةً وربما كان غير ذلك، أن تتزامن الجلسة التي عقدها مجلس الأمن حول سوريا الاثنين، مع الاجتماع الذي عُقد في جنيف بدعوة من الولايات المتحدة لثلاثة عشر دولة، للتباحث حول الشأن السوري ذاته الثلاثاء، إذ إن كلا الاجتماعين كما هو واضح يتخذ من المسألة السورية محوراً له، فهل يوحي ذلك أو يشير إلى أن ثمة ما هو مستجد في الموقف الأميركي حيال القضية السورية؟
ربما تبدو الإجابة على هذا التساؤل متعذرة، نظراً للاستراتيجية الأميركية المعلنة إزاء القضية السورية، إذ أن واشنطن وعلى الرغم من موقفها الثابت والمتمسك بالعقوبات المفروضة على نظام دمشق، وكذلك على الرغم من موقفها الرافض للتطبيع معه، لا تنادي بإزالته، ولا تسعى إلى ذلك، بل ربما كان شعار "تغيير سلوك النظام" هو المظلة التي تخفي تحتها الكثير من الأمور المبهمة في السياسة الأميركية.
ما هو جديد ولافت للانتباه هو تلك التصريحات التي وردت على لسان نائب ممثلة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة السفير ريتشارد ميلز، خلال إحاطة مجلس الامن الدولي بشأن الوضع السياسي في سوريا الاثنين، إذ تضمنت كلمة ميلز نبرة عالية السخط على نظام الأسد، أهم ما يمكن الوقوف عنده فيها، هو تأكيده على أن القرار 2254، لا يعني فقط مسار اللجنة الدستورية، بل يتضمن الافراج عن المعتقلين ووقف إطلاق النار، في إشارة واضحة منه إلى البنود الإنسانية التي تضمنها القرار الاممي المذكورة في الفقرات (12 – 13 – 14) التي تخص الافراج عن المعتقلين، ووقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية.
كما أشار السيد ميلز موضحاً ان قضية المعتقلين يجب ألا تتأثر بالعثرات التي تعترض طريق اللجنة الدستورية، ما يعني إلحاحاً وتسليطاً للضوء على قضية ربما تكون الأكثر تأثيراً والأشد حساسيةً على نظام الأسد، نظراً لما تنطوي عليه من انتهاكات وفظائع، ربما السوريون وحدهم من يدرك فداحتها، أضف الى ذلك أن تلك المسألة سوف تعيد الى الأذهان الأعداد الهائلة من المفقودين الذين لا يملك النظام جواباً مقنعاً حولهم. إذاً يمكن القول إن المراد من كلام السفير هو المزيد من إحراج النظام، بل إعادة تسليط الضوء على جرائمه.
لعل المسألة الثانية التي تطرق لها ميلز في كلامه، والتي لا تقل أهمية عن الأولى هو اشارته الى إن التوافق على المسالة السورية عبر مجلس الامن لن يحصل، في إشارة واضحة إلى الفيتو الروسي المتكرر لصالح نظام الأسد، كما أوضح ميلز أن موسكو تنحاز للأسد بسبب مصالحها الضيقة، ما يوجب التحرك والبحث عن طرق بديلة من شأنها أن تُلزم النظام بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، ما يعني أنها دعوة لتجاوز التفاهم الأميركي-الروسي التقليدي حول المسألة السورية، فهل يجسد هذا الموقف الأمريكي مفصلاً جديداً للعلاقة الروسية-الأميركية حول سوريا؟
ولئن كان من المبكر الحديث عن تصادم مباشر بين الموقفين الروسي والأميركي، إلا أن بوادر استباق المواقف، وقطع الطريق على الأخر باتت واضحة الملامح، إذ لم يعد خافياً أن لقاء سوتشي الأخير في 5 آب/أغسطس، الذي جمع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، قد أظهر توافقاً روسياً-تركياً ربما هو الأبرز طيلة مسار أستانة. وربما كانت تصريحات الرئيس أردوغان حول تفهّمه لمصالح بوتين لإجراء تفاهمات ومفاوضات مباشرة مع نظام دمشق، قد استفزت الجانب الأميركي، وخاصة أنها جاءت على أعقاب تصريحات سابقة للرئيس التركي عقب قمة طهران الأخيرة، تضمنت مطالبة صريحة بوجوب خروج القوات الأميركية من سوريا، واعتبارها داعمة للإرهاب في إشارة واضحة إلى استياء تركيا من استمرار دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية (قسد).
يمكن الذهاب إلى ان التفاهمات الروسية-التركية لم تعد تُعنى فقط بمراعاة مصالحهما في سوريا، بل بمواجهة ولو غير مباشرة مع مصالح واشنطن، التي تعتقد أن بقاءها شرق الفرات واستمرار تنسيقها مع ميليشيا قسد، إنما هي ضرورة تقتضيها المواجهة ليس مع داعش فحسب، بل مع إيران أيضاً، وربما أرادت واشنطن أن ترد على التقارب التركي-الروسي برد ينطلق من داخل سوريا وليس من خارجها، ذلك أن علوّ النبرة الأميركية في مجلس الأمن حول تنفيذ القرارات الدولية، كما جاء على لسان السفير ميلز، وكذلك التركيز على الفظائع التي ارتكبها الأسد ومنظومته الإجرامية، إنما يعني من الناحية العملية العودة لإحياء مسار جنيف، وتوجيه الأنظار من جديد إلى الحل السياسي ذي الصلة بالقرارات الأممية، ما يعني رداً غير مباشر على المشروع الروسي التركي، الذي ينطلق من الرؤية الروسية وتفسيرها الخاص للقرار 2254.
ولعله غير بعيد أن تكون دعوة واشنطن الأخيرة الى لقاء جنيف، ودعوتها لهيئة التفاوض السورية بالحضور على وجه الخصوص، هي نوع من إعادة الاعتبار لمسار جنيف الذي كاد أن يكون منسياً، وهذه رسالة شديدة الوضوح إلى روسيا قبل أن تكون موجهة لتركيا، وربما كانت ايضاً إبلاغاً أميركيا واضحاً لموسكو بأن واشنطن وإن نأت بعض الوقت عما يجري في سوريا، فإنها لن تكون نائيةً عن أي حل تطرحه جهة أخرى.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها