فعلى الرغم من مضيّ سبعة وخمسين عاماً على الاحتلال الصهيوني لهضبة الجولان، فإن الاحاديث ما تزال قائمة إلى الآن ولم تُحسم بعد حول ضلوع حافظ الأسد، الذي كان وزيراً للدفاع آنذاك، في عملية بيع الهضبة، وجدت الكثيرين ممّن يؤكّدونها، وخصوصاً العاملون في الشأن العسكري آنذاك من ضباط ومسؤولين، سواء أكانوا في ميدان المعركة أو في موقع القرار السياسي، الأمر الذي دفع بحافظ الأسد إلى استباق موضوع مساءلته حول ذلك، بالقيام بانقلاب عسكري (1970) أفضى إلى إمساكه بمقاليد الحكم وزجِّ رفاقه ومناوئيه في السجون، وفي مقدمهم صلاح جديد ونور الدين الأتاسي.
عودة الجولان كاملاً
وبغضّ النظر عن دقة وتفاصيل ما جرى، وكذلك بعيداً عن ملامح الدور الفعلي لحافظ الأسد بما سُمّي "نكسة حزيران 1967"، فان الأسد جعل من شعار "عودة الجولان كاملاً"، معياراً لاستراتيجيته السياسية والعسكرية حيال إسرائيل.
إلّا أنه من الناحية الفعلية كان حريصاً أشدّ الحرص، ومنذ اتفاقية فضً الاشتباك عام 1974، على ألّا تخرج رصاصة واحدة من الجانب السوري على امتداد الحدود تجاه إسرائيل. ولعل إفراط الأسد في صرامة التزامه بالحفاظ على أمن إسرائيل، من جهة الجولان، كان محطّ شكرٍ واعتراف بالجميل من جانب أكثر من مسؤول إسرائيلي.
إن قدرة الأسد الأب، طيلة بقائه في السلطة، على ضبط معادلة هذا التوازن القائم على رفض الاحتلال إعلامياً، والقبول باستمراره فعلياً، هي ما أتاحت له الاستمرار في حالة "اللاحرب واللاسلم"، التي كانت الاستراتيجية الضامنة لاستمرار نظام دمشق مقاوماً وممانعاً وكذلك مطواعاً وخانعاً في الوقت ذاته.
إرث الأسد الأب
لقد قُيِّضَ لبشار الأسد أن يستفيد من الإرث الاستراتيجي لأبيه، إذ شهدت وراثته للحكم مباركة أميركية إسرائيلية، جسّدتها وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت منذ الساعات الأولى لتولّيه مقاليد السلطة، من خلال لقائها المنفرد مع الرئيس الوريث، وكان واضحاً آنذاك أن استمرار الحفاظ على أمن الحدود الشمالية لإسرائيل، هو ثمن المباركة الأميركية-الإسرائيلية لبشار الأسد الذي وجد في نهج "الممانعة المِطواعة"، سبيلاً لضخّ الشعارات التي أبطلتها الثورة السورية منذ الأشهر الأولى لانطلاقتها، حين صرخ أحد أعضاء حاشية الأسد مستغيثاً: إن أمن إسرائيل من أمن سوريا.
وبالفعل بقي نظام الأسد قائماً، بينما قُتل وأصيب من السوريين قرابة ملوني مواطن، وهُجِّر نصف السكان ما بين نزوح وقسري داخلي، وهجرة خارج البلاد.
الوظيفة حيال إسرائيل
منذ عملية "طوفان الأقصى"، حاول نظام الأسد الحفاظ على أدائه الوظيفي حيال إسرائيل، فنأى بنفسه نأياً كاملاً عن كل ما يجري، ولكن تداعيات المواجهة، وانتقال الحرب إلى لبنان نتيجة المواجهات بين "حزب الله" وإسرائيل، بدأت ترسم مسارات جديدة لمحور الممانعة، لعل أبرزها هو الكسر الإسرائيلي الهائل لما يسمى بقواعد الاشتباك، مما يعني عدم اكتفاء إسرائيل باستهداف أذرع إيران في لبنان فحسب، بل ربما العمل على استئصال النفوذ الإيراني في سوريا أيضاً، وهذا ما دفع القوات الإسرائيلية إلى التوغل داخل الأراضي السورية مئات الأمتار، في خطوة تشي بأن الجولان لم يعد أرضاً سورية محتلة جعلها الأسد ثمناً لاستمراره في الحكم فحسب، بل يبدو أن عامل الطمأنينة هذا يكاد يتحول إلى سلاح مضاد قد تستخدمه إسرائيل منطلقاً لاستهداف نظام دمشق أيضاً.
التحركات الاسرائيلية بالقنيطرة
ربما تعكس التحركات الإسرائيلية الأخيرة في القنيطرة والجولان والتي شملت نزع الألغام وإزالة الحواجز الهندسية وانشاء تحصينات جديدة، استراتيجية إسرائيلية متعددة الأبعاد، تهدف إلى تعزيز الأمن والسيطرة العسكرية في تلك المنطقة والمناطق المحيطة بها.
وقد تكون جزءاً من استراتيجية لتوسيع العمليات العسكرية ضد "حزب الله" والضغط عليه من جهة الجولان، والالتفاف عليه من جهة مزارع شبعا وحصاره في الجنوب اللبناني، مما يعني قطع كل خطوط إمداده من جهة الشرق، وحرمانه من وصول المساعدات العسكرية واللوجستية من إيران مروراً بسوريا والعراق، بالإضافة الى إنشاء منطقة آمنة تمكنها من التحرك بحرية وإجراء عمليات استطلاع ومراقبة واسعة.
الاستراتيجية الأميركية في سوريا
تركزت الاستراتيجية السابقة للولايات المتحدة في سوريا على غضّ الطرف عن تمدد تنظيم "داعش" وسيطرته على مناطق واسعة، كان قد حررها "الجيش الحر" من قوات النظام، ومن ثم قامت بتشكيل تحالف دولي أفضى الى القضاء على التنظيم، وتموضع القوات الأميركية في تلك المناطق مع حليفتها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
السيناريو الأميركي، تكرره إسرائيل مرة أخرى، حيث تمدّد "حزب الله" والميليشيات الإيرانية في جنوب سوريا على مرأى ومسمع قادة تل ابيب، التي تهدف الآن، من خلال توغلها في الجولان السوري المحتل، الى إزاحة تلك الميليشيات وأخذ مكانها وإعادة تشكيل المشهد السياسي للمنطقة.
يُعتقد أن الخطة الإسرائيلية المدعومة أميركياً تهدف الى خلق منطقة عازلة في المثلث الجنوبي بين محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، بعمق 15 الى 20 كيلومتراً، قد توكل ادارتها لمجموعات من المجتمع المحلي بدعم عربي ودولي، وذلك لمنع دخول الميليشيات الإيرانية وإزالة خطرها العسكري ومنع تهريب الأسلحة والمخدرات.
نهاية هندسة الأسد
ورغم أن النظام السوري، ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، قد أوعز الى جميع التشكيلات والقطاعات العسكرية المنتشرة على جبهة الجولان المحتل، بعدم السماح لعناصر حزب الله والميليشيات الموالية لإيران باستخدام تلك الثكنات منطلقاً لأي عمليات عسكرية تستهدف إسرائيل، خشية أن تتخذها الأخيرة ذريعة لاستهدافه، إلا أن ثقة الإسرائيليين بقدرة النظام على لجم الاذرع الإيرانية والحد من استهدافاتها لإسرائيل، أصبحت معدومة، فكانت الإغارة على مقر إقامة قائد الفرقة الرابعة ماهر الأسد في يعفور رسالة واضحة وجلية بأن قواعد اللعبة السابقة بين الطرفين التي هندسها الأسد الأب قد انتهت صلاحيتها.
لا يمكن الجزم أخيراً بما في ذهن حكومة نتنياهو حول الجولان أو ما يليها، ولا حدود توغلها في جنوب سوريا أو مداه، لكن المؤكد أن جيش الاحتلال لديه خطة لاجتياح بري لتلك المنطقة، دون أن يكون جيش نظام الأسد راغباً أو قادراً على فعل أي شيء.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها