على مدار أكثر من 12 عاماً، عانت القضية السورية من استعصاء مزمن وانسداد أفق الحل السياسي المبني على قرارات الشرعية الدولية، والتي تنصّ جميعها على تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، تقود عملية سياسية تفضي الى كتابة دستور جديد، وتهيئة البيئة الآمنة والمحايدة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة برعاية وإشراف الأمم المتحدة.
كما واجهت تجاهلاً كاملاً من نظام دمشق ورفضه لكل تلك القرارات، وضربه بعرض الحائط جميع المبادرات العربية والإقليمية والدولية لإيقاف شلال الدماء الذي أودى بحياة أكثر من مليوني سوري بين قتيل وجريح ومعتقل، وتهجير أكثر من نصف الشعب السوري، وإصراره على خيار الحل العسكري والأمني وقتل وتهجير كل من انتفض وطالب بالحرية والكرامة وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
كان التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا نهاية أيلول/سبتمبر 2015، نقطة تحول فارقة في عمر الثورة السورية، أدى الى تغير كبير في الخارطة العسكرية والسياسية، فكان للآلة العسكرية الروسية الفتاكة التي استخدمت سياسة الأرض المحروقة، دوراً كبيراً في تراجع مناطق نفوذ المعارضة التي كانت تسيطر على 65% من الجغرافيا السورية، فكانت بداية الانكسار من سقوط أحياء مدينة حلب الشرقية في نهاية 2016، التي قصمت ظهر الثورة، ثم تبعها سقوط المدن والبلدات في الجنوب والوسط لتصل نسبة سيطرة تلك الفصائل الى 11% في 2020.
التدخل الروسي الذي كان برضى عربي ودولي وإقليمي، لم يقتصر على السيطرة العسكرية واستعادة الجغرافيا لصالح النظام، بل امتد ليشمل نفوذه تقييد ومصادرة قرار الفصائل العسكرية من خلال مسار أستانة الذي أفرزت جولاته ال20 اتفاقيات خفض التصعيد التي أسهمت بدورها في تسكين الجبهات وإيقاف الاقتتال مع النظام من طرف المعارضة فقط، لأن النظام استمر بقضم المناطق الجغرافية تباعاً، وإعادة السيطرة عليها، وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم.
فيما يتعلق بالنضال العسكري، لم تكن المشكلة في التحول من طور الثورة السلمية إلى العسكرة أواخر عام 2011، وإنما في بوصلة هذا السلاح؛ فمنذ ربيع عام 2020، انحرفت بوصلة سلاح فصائل الثورة ولم تعد تجذبها جبهات النظام والميليشيات الحليفة له، بل أصبح الاقتتال البيني بينها هو السمة الغالبة، ليتجاوز الصراع المؤدلج بين التنظيمات الإرهابية المتشددة ( داعش- قسد- جبهة النصرة ) وبين فصائل الجيش الوطني، إلى صراع دموي بين فصائل الجيش الوطني المحسوب على الثورة، صراع واقتتال على المعابر والسلطة والنفوذ، حوّل تلك الفصائل من حامي للمدنيين ولمنجزات الثورة التي ضحى أبناء هذه المؤسسة الأوائل بدمائهم لتحقيقها، إلى فصائل مسلحة شكلت عبئاً كبيراً على مجتمع المناطق المحررة البائسة، بعد أن انحرف بعضها بعيداً عن أهداف الثورة وقيمها.
عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية المحاصرة في قطاع غزة منذ 17 عاماً، أعادت لأبناء الثورة التواقين للحرية وذكريات المعارك والانتصارات، وحركت عند كثير من قادة وعناصر فصائل الثورة المحافظين على خطهم الثوري، الأمل بالانقلاب على واقعهم واستعادة زمام المبادرة والقرار المسلوب، والعودة إلى معارك التحرير ب(طوفان دمشق) ينهي معاناة السوريين ويخلصهم من حكم آل الأسد، فأغلب السوريين بما فيهم الهياكل الرسمية التي تطالب في المحافل الدولية بالحل السياسي أصبحوا على قناعة كاملة ويقين تام باستحالة تحقيق ذلك في ظل تعنت النظام وداعميه وتخاذل المجتمع الدولي وتهافت العديد من الدول على إعادة تعويمه وغسل جرائمه.
تنطلق مشروعية هذا المطلب من كون التضحيات الجسام التي قدمها الشعب السوري ليست من أجل أن يتركوا الحواضر المدنية وبلداتهم وقراهم وأرزاقهم، ويصبح عيشهم في الخيام أو داخل شريط حدودي ضيق، تحكمه سلطات أمر واقع لا تلبي أي من أهداف الثورة، باعتباره واقعاً مراً دائماً لا تُعرف له نهاية، فالحل السياسي المزعوم لا يتأتى دون قوة عسكرية فعالة وموحدة بقيادة سياسية وعسكرية وطنية تفرض نفسها وتكتسب مشروعيتها الداخلية والخارجية من جبهات القتال، فلا خيار في استعادة الزخم والاهتمام الدولي بالقضية السورية التي أصبحت شبه منسية إلا بعمل عسكري مخطط ومنظم يهز أركان النظام ويستعيد زمام المبادرة كما فعلت فصائل المقاومة الفلسطينية بالكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر الفائت.
لكن هذه الروح التي توقدت في النفوس، والرغبة الكامنة التي استيقظت مجدداً بدافع المثال، تواجه سؤالاً ومثالاً كبيرين في الوقت نفسه.
أما السؤال فهو ما هي إمكانية القيام بهكذا عمل ومن سيقوم به، في ظل واقع انقسام وتشرذم القوى والفصائل العسكرية، ومؤسسات وكيانات سياسية وعسكرية وهمية ليس لها أي سلطة على تلك الفصائل التي لا تملك أصلاً من قرارها شيء، وبجانبها قوى منبوذة تقدم نفسها على أنها الخيار الأفضل لمثل هذا التوجه لو تم التوافق عليه، ونتكلم هنا عن هيئة تحرير الشام ومن يدور في فلكها من القوى والمجموعات القديمة أو المحسوبة على الجيش الوطني، وهي، أي الهيئة وهذه المجموعات، ليست محل ثقة جمهور الثورة لاعتبارات كثيرة ومعروفة.
فيما المثال هو المجازر الدامية والتدمير الشامل الذي ألحقه جيش الاحتلال الإسرائيلي بقطاع غزة وأهلها بعد عملية طوفان الأقصى، في ظل ضوء أخضر من المجتمع الدولي وقواه الرئيسية التي انقسمت بين داعم للاحتلال أو عاجز إلا من مشاريع قرارات تقدم لمجلس الأمن من أجل وقف العدوان الإسرائيلي على القطاع وتواجه بالفيتو الأميركي، الأمر الذي يفرض على السوريين تخوفاً مضاعفاً من قيام النظام وحلفائه بردة فعل مماثلة بحال استئناف المعارك معه، خصوصاً وأن المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة تكتظ بالسكان والنازحين الذين يصل عددهم إلى ما يقارب الخمسة ملايين، خبروا تماماً وحشية النظام وحلفائه من قبل، ويدركون أن هؤلاء لن يترددوا بالقيام بما هو أسوأ اليوم دون أن يتجرأ العالم على ردعهم بعد أن سكت عن جرائم اسرائيل في غزة.
هو الاستعصاء إذن، لكنه استعصاء لا يجب أن يدعو إلى الاستسلام للواقع البائس الذي وصل السوريون إليه، بل إلى التفكير الجدي والمنظم بمخارج تفضي إلى إنهاء هذا الواقع.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها