بعدما انتشروا على امتداد الساحة السورية، يعود كبار الضباط الإيرانيين اليوم مجدداً إلى الساحل السوري، بحثاً عن الحماية الروسية من القصف الاسرائيلي.
وصل الإيرانيون إلى الساحل السوري منذ العام الأول للثورة، ليقدموا استشارتهم للنظام لقمع الثورة. في البداية وصلوا كالسياح، وحُجِزَت لهم أفضل الفنادق والشقق المفروشة. استحوذ ضباطهم الأعلى رتبة على طابقين من فندق الميريديان، ثم قُدِّمَت لهم شقق مُطلة على البحر في المناطق السياحية الأكثر رفاهية، ذات الأغلبية العلوية.
وعندما بدأ الإيرانيون بقيادة قوات شيعية لبنانية وعراقية وسورية، احتفظ ضباطهم بالمساكن المرفهة في الساحل، في حين نُقلَ جنودهم إلى مراكز عسكرية جديدة. الضباط حافظوا على مميزاتهم الفخمة التي قدمها لهم النظام. في مناطق العمليات العسكرية سكن الإيرانيون في البيوت التي نزح سكانها، لكنهم اختاروا القصور والفلل. ريف اللاذقية الممتد مسافة 50 كيلومتراً على طريق حلب، يتألف من عشرات القرى التي استعادها النظام من المعارضة، وأسكن فيها الضباط الإيرانيين. السكان مُنِعوا من زيارة قراهم إلا بموافقة أمنية. البعض حاول التوسط لدى محافظ اللاذقية للعودة، إلا أن الرفض كان يأتي دوماً بحجة عدم الأمان و"قصف الإرهابين الدائم للقرى". قصف لم يمنع استقرار الإيرانيين فيها بكل يسر.
أهالي القرى المسيحية تدخلوا عند الكنيسة للتوسط مع الروس، لتأمين عودتهم، إلا أن مطران الروم الأرثوذكس شرح للأهالي في اجتماع موسع صعوبة عودتهم، وطويت القضية لأجلٍ غير مسمى.
مع التدخل العسكري الروسي نهاية العام 2015، انسحب الإيرانيون من مدينتي اللاذقية وطرطوس، ولم يُشاهدوا بعدها في المدن والفنادق والأبنية المشهورة. تلك الشقق الفخمة والفنادق انتقلت بشكل تلقائي للروس. النظام قدم للضباط الروس امتيازاتٍ تجاوزت ما قدمه للإيرانيين.
تراجُع الحضور العسكري الإيراني في الساحل ترافق مع تراجع دور مراكزهم الاجتماعية والتربوية. المراكز التعليمية والمدرسية الإيرانية أغلقت نهاية العام 2018. في مدينة جبلة وريفها الكبير، لم يعد يتواجد أي ممثل لإيران، حتى في مدارسها التي أغلقت من دون سابق إنذار.
بشكل خافت ودون أثر يُذكر، اختفى ما يُمكن اعتباره تمثيلاً إيرانياً في مدن الساحل. ورغم انتهاء تحديث المركز الثقافي الإيراني في اللاذقية، منذ عام تقريباً، إلا أنه لا يشهد أي حراك ثقافي أو تعليمي. منذ قدوم الروس انخفض عدد الطلاب المُشتركين في المركز لتعلم اللغة الفارسية. منذ بداية العام 2019 لم يُسجل أي طالب لتعلم الفارسية. حتى التسجيل الجامعي على المنح في إيران، توقف بشكل كُلي تقريباً.
"مركز جامع الرسول الأعظم للتنمية والدعم" توقفت أعماله منذ بداية 2019. وكان المركز يدعم 4000 عائلة في مدينة جبلة اقتصاديا وتعليمياً، ويكتفي اليوم بدعم الطلاب الذين حازوا مسبقاً على منح دراسية في إيران. المؤسسات الإيرانية توقفت عن دعم أُسر "الشهداء"، حتى في ما يخص حاجات العزاء والنقل، التي كان يقدمها جامع الرسول الأعظم مجاناً. نسبة المصلين في الجامع انخفضت بدورها بشكلٍ ملفت. وحتى الحماية الأمنية لم تعد ظاهرة، كما كانت قبل قدوم الروس، فلا يقف اليوم أمام الجامع لحمايته، سوى عسكري واحد.
الإيرانيون، وبضغط من النظام المستقوي بحليفه الروسي، أوقفوا دعم العلويين وأبقوا على دعمهم للشيعة السوريين. أهالي اشتبرق وكفرية والفوعة حصلوا على مساكن قدمها الإيرانيون، ما أثار استياء العلويين النازحين من الريف. محافظة اللاذقية سحبت أسماء أبناء القرى الشيعية من برنامج الإشراف التي تُلزمه للجمعيات المسجلة في اللاذقية لدعم النازحين.
انسحاب الدعم الإيراني الاجتماعي شكل فجوة كبيرة. ومع ذلك، تسود في الأوساط الأهلية، أن الالتزامات الاجتماعية والدينية التي حاول الإيرانيون فرضها قد نفّرت العلويين.
منذ بداية العام 2019، وعلى وقع الغارات الإسرائيلية، عاد الإيرانيون إلى الساحل مرة أخرى، بحثاً عن حماية المظلة الصاروخية الروسية. وهم يبحثون عن مساكن لضباطهم، دون مساعدة من "الأمن العسكري". ويحاول الإيرانيون حماية أنفسهم مستفيدين من سماح النظام الذي لا يستطيع تقييدهم، لكنه لم يعد يدعمهم ولا يقدم التسهيلات لهم.
متعهد بناء محلي في اللاذقية، تعاقد في أعمال الإنشاءات مع الإيرانيين، قال لـ"المدن"، إن 40 شقة فخمة للضباط الإيرانيين في حماة تعرّضت لاستهدافات متكررة من إسرائيل في العام 2018، لذا فهم يريدون الانتقال إلى اللاذقية. "الأمن العسكري" راقب عودة الإيرانيين إلى اللاذقية بحذر، متابعاً كافة التفاصيل العملية والمالية لهم، من خلف ظهرهم، و"كأنهم لا يعلمون شيئاً عن الأمر".
وتشهد اللاذقية حالياً عودة مئات الضباط الإيرانيين، لعدم قدرتهم على تأمين الحماية الذاتية إلا تحت المظلة الروسية، وبالقرب من قاعدتها الجوية. وهم يتعاقدون مع متعهدين لتأمين شقق لهم في ريف اللاذقية العلوي. وقد أعاد الإيرانيون السيطرة على طوابق خاصة لهم في المستشفيات العسكرية، كما في مشفى حماة، بعد غيابهم عنها لوقت طويل.
الإيرانيون عادوا إلى الساحل هذه المرة، كالسياح أيضاً، لكن النظام لا يدلهم على طرق المدينة ولا فنادقها، لذا يبنون قواعدهم وبيوتهم بأنفسهم، من دون ترحيب اجتماعي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها