كسابقاتها من سنوات الحرب، مرت هذه السنة بطيئة وقاسية على السوريين. حملت بداياتها نذر الأزمات المتصاعدة والحرب المديدة، وأسفرت نهاياتها عن المزيد من المعارك الدموية والتشابكات الدولية والإقليمية المتناقضة ضمن الساحة السورية المفتوحة على تعزيز نفوذ الأفرقاء المتصارعين وتصفية الحسابات بينهم.
ومع انعدام أي أفق سياسي خلافا لما كان مأمولا من هذا العام، تصاعدت العمليات العسكرية في العديد من المناطق السورية، وتركزت بمعظمها في شمال وشرق سوريا بعد أن تم إخضاع جنوب ووسط سوريا عسكريا لصالح النظام بشكل نهائي عام 2018.
خرائط المعارك والصراعات الدموية التي شهدها العام 2019 لم تقتصر على معارك النظام ضد مناطق المعارضة بمساندة حلفائه، وإنما تنوعت تبعا لتعقيد الساحة السورية وتشابكاتها المتعددة لتشمل معارك بين معظم المكونات العسكرية الفاعلة في شمال وشمال شرق سوريا، بالإضافة إلى الضربات الجوية الإسرائيلية المستمرة والمتلاحقة.
معارك النظام
في ضوء شعوره بالتفوق العسكري وهروبه للأمام من أزماته الاقتصادية واستحقاقاته السياسية، بدأ النظام أولى معاركه في مطلع العام الحالي في شباط على شكل خروقات لمناطق خفض التصعيد في ريفي حماه الشمالي وإدلب، واشتدت في أيار لتأخذ شكل حملة برية بمساندة حلفائه الروس والإيرانيين ونجم عنها قضم كامل ريف حماه الشمالي، ومنطقة خان شيخون.
أما المعركة الثانية، فقد جرت شرق الفرات بعد استغلال النظام للانسحاب الأميركي من المنطقة بالتزامن مع بدء عملية "نبع السلام" التي أطلقها اردوغان في الشهر العاشر، وجرت المعركة بين النظام و"قوات سوريا الديموقراطية" بالإضافة إلى مناوشات جزئية مع المعارضة والأتراك لينجم عنها في النهاية استيلاء النظام على العديد من المناطق في شرق الفرات.
ورغم كون تلك المعارك أكثر تشتتاً ضمن المجال الجغرافي واقل عنفاً بسبب الفراغ الحاصل والإرباك الذي شهدته "قسد"، إلا أن نتائجها من وجهة نظر النظام والروس شكلت الانجاز الأهم وفق ما قاله قائد مجموعة القوات الروسية في سوريا الفريق ألكسندر تشايكو "تمثل الحدث المحوري عام 2019 بمساعدة الحكومة السورية على بسط السيطرة على أراض واقعة في شرق الفرات".
وتأتي المعركة الحالية في ادلب استكمالا للمعركة الأولى في ريف حماه والتي هدفت مرحليا إلى تأمين الطرق الدولية بين كل من دمشق وحلب، واللاذقية وحلب، وقد استطاع النظام حتى حينه السيطرة على مناطق واسعة في ريف ادلب الجنوبي والوصول إلى تخوم معرة النعمان وما تزال المعارك مستمرة.
معارك أخرى لم يشارك فيها النظام
منذ مطلع العام شنت "هيئة تحرير الشام" معارك طاحنة ضد فصائل المعارضة الأخرى، نتج عنها تعقيم المنطقة لصالحها عسكرياً وإلغاء أي وجود للفصائل الأخرى لتحكم قبضتها على كامل ادلب بغطاء سياسي من حكومة الإنقاذ المنبثقة عنها.
من جهتها تابعت "قسد" معاركها مع تنظيم "الدولة الإسلامية" لتنتزع منه آخر معاقله في الباغوز في الشهر الثالث من هذا العام، تبعه إعلان أميركي بالانتصار على "داعش" جغرافياً، من دون أن يعني ذلك نهاية التنظيم بشكل كامل، لتعلن الولايات المتحدة لاحقاً في 27 تشرين الاول اوكتوبر القضاء على أبو بكر البغدادي ضمن عملية منفردة.
لكن المعركة الأكثر أهمية على الإطلاق، والتي خلطت الأوراق، وغيرت المعادلات القائمة وخرائط الصراع المحلية وانعكاساتها الدولية منذ سنوات كانت عبر التدخل التركي المباشر والتوغل في الأراضي السورية إلى ما يزيد عن 30 كلم في المعركة التي أسمتها "نبع السلام".
الضربات الجوية الإسرائيلية
لم تتوقف إسرائيل عن الضربات الجوية التي شملت معظم الأراضي السورية وامتدت في بعضها إلى أقصى الشمال الشرقي في البوكمال تحت عنوان تقليم النفوذ الإيراني في سوريا، غير أن التركيز الأكبر لهذه الضربات توجه نحو المنطقة الجنوبية بما فيها العاصمة دمشق، بالإضافة إلى المنطقة الوسطى والساحلية التي شهدت عشرات الغارات الإسرائيلية في استهداف مباشر لإيران وأذرعها وتحصيناتها ومستودعات ذخائرها على الأراضي السورية.
موت الحلم السوري
لم يشهد العام 2019 أي تقدم على الصعيد السياسي، على العكس تلقى المسار السياسي المتعثر أصلا طعنة قاتلة أعادت الوضع السياسي إلى نقطة الصفر بانتظار نضوج الظروف أو حدوث تفاهمات دولية وإقليمية لاحقة.
وفي ما يصعب على السوريين المفاضلة بين سنة وأخرى من سنوات الحرب التي شنها النظام عليهم منذ عام 2011، يمكن اعتبار العام الحالي بعام الصدمة، وموت الحلم السوري في انتهاء الحرب والدخول في مسار السلام، وحتى في النظر إلى سوريا باعتبارها كيانا موحدا.
فبعد إعلان غير بيدرس
ن فشل اللجنة الدستورية قبل شهر، وإعلان وليد المعلم قبل أيام وفاة سوتشي مشددا على الحل العسكري، تبخرت الآمال المعقودة على أي حل سياسي ضمن المدى المنظور.
وكانت اللجنة الدستورية التي اعتبر مجرد تشكيلها بعد مخاض طويل وشاق نوعا من الاختراق السياسي، قد عقدت أولى جلساتها في 30/10/2019، غير أن استنكاف النظام ورفضه لعقد الاجتماعات في الجولة الثانية فيها أكدا عدم استعداد النظام وداعميه لأي مسار سياسي في الوقت الراهن.
كما شهد العام 2019 خيبة أمل النظام وداعميه في إحداث اختراق سياسي لجهة الانفتاح عليه و عودة العلاقات البينية دبلوماسيا واقتصاديا كما كان يطمح في مسعى تعويمه وإعادة تأهيله دولياً من البوابة العربية، حيث أن إشارات أمريكية كبحت ذلك التوجه، لتؤكد الجامعة العربية أن الوقت لم يحن بعد، وأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية مشروط بانخراطها في مسار التسوية السياسية بشكل جاد وهو ما عززه صدور قانون سيزر(قيصر) باشتمال عقوباته على داعمي وأصدقاء النظام.
2019 الكارثة الاقتصادية
إذا كانت الصدمة الاقتصادية عنوان بداية العام 2019 لما ظهر فيها من أزمات الوقود الخانقة، فان الكارثة الكبرى هي عنوان نهاية العام الذي شهد أسوأ انهيار لليرة السورية، لامس فيها عتبة الألف قادما من سعر يقارب 580 ليرة سورية للدولار الواحد، في ظل وضع مرشح لمزيد من الانهيار بسبب العجز المالي للنظام وإقرار قانون سيزر قبل أيام.
وما بين الصدمة والكارثة تعرض الاقتصاد السوري عام 2019 للانكشاف الفعلي في ظل غياب معلومات مؤكدة عن مصير خط الائتمان النفطي القادم من إيران، وفي أجواء مطالبة داعمي النظام لأموالهم المدفوعة له، واستعادتها على شكل معاهدات إذعان سياسية واقتصادية يحوزون بموجبها على مرافق سيادية وثروات باطنية، كالنفط والفوسفات والغاز،والموانئ والمطارات وشبكات الطرق والنقل البري والبحري.
وفي السياق الاقتصادي شهد العام 2019 تبدلا في مواقع النخب الاقتصادية واستبدال مراكز الصدارة التقليدية بأسماء جديدة، وترافقت تلك التبدلات والتموضعات الجديدة بسياق قانوني من الحجز الاحتياطي والتنفيذي على بعض الأسماء المعروفة والمشمولة جميعها بعقوبات أمريكية وأوروبية في مسعى من النظام لتلافي آثار العقوبات عبر تغيير الواجهات الاقتصادية المعروفة بأخرى جديدة.
وفي ظل العجز والانكشاف والتقنين الحاد تخبطت التشريعات السورية في الجانب الاقتصادي، ونحت بمعظمها صوب استحداث آليات جباية مالية انعكست بمردود شديد القسوة على الأسواق السورية التي اتسمت بالانكماش نتيجة انخفاض القوة الشرائية لعموم السوريين ودخول شرائح كبيرة منها في مستويات الفقر المدقع.
وما بين الاقتصادي والاجتماعي لم يترك عام 2019 للسوريين أن ينتزعوا شظايا الحرب من أجسادهم وأحلامهم، بل زاد عليها بتهجير مليون نازح إضافي يفترشون العراء في ظروف جوية وإنسانية شديدة القسوة.
وبالتوازي مع ذلك سعى النظام الذي يخسر رصيده الاجتماعي مع كل تقدم عسكري إلى المزيد من التضييق على الحريات والتشديد على الإعلام والى المزيد من الاعتقالات لضبط الحاضنة الشعبية التي بدأت تشعر بعمق الهوة بينها وبينه على قاعدة انهيار ظروف الحياة وتدني الواقع المعيشي.
بكل قسوته ووحشيته يغادر العام 2019 عالم السوريين فاتحا لهم باب عام جديد خرج من صلبه ليكون وريثا له، ولن يختلف عن سابقه إلا بعمق وهول الكارثة والإحباط وشدة الفقر والحرمان.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها