يتوالى تنفيذ وزارة المالية السورية، بحسب إشارات ترفعها مؤسسات حكومية مختلفة ومنها "مديرية الجمارك"، لعمليات الحجز الاحتياطي على أموال الدائرة الضيفة واللصيقة مالياً وعائلياً برأس النظام السوري. وطالت مؤخراً، رامي مخلوف، "صيرفي العائلة الحاكمة" و"رجل الأعمال" الأبرز في سوريا خلال العقد الأول من عهد بشار الأسد.
وجاء الحجز الاحتياطي على أموال مخلوف المنقولة وغير المنقولة، بعد أقل من أسبوعين على حجز مشابه بحق رجل الأعمال طريف الأخرس، عم أسماء، زوجة بشار. وسرعان ما رُفع الحجز على أموال الأخرس، بعدما قيل إنه سداد لديون ومستحقات للدولة. ولا يبدو أن الحجز الراهن على مخلوف سيكون أطول من الحجز على الأخرس. فالمطلوب تنفيذ جباية سريعة لبعض المستحقات القديمة التي يمتنع رجال أعمال النظام عن تسديدها، لاعتقادهم بأن الخدمات التي قدموها لـ"الدولة" أكبر من تلك الغرامات بكثير.
وشمل الحجز أموال زوجة مخلوف، وبعض الشركاء الفرعيين له، وذلك على خلفية "قضايا جمركية"، بحسب القرار الصادر عن وزارة المالية.
ورغم الضجيج الإعلامي الذي تناول قبل شهور العلاقة المتوترة بين أولاد الخال؛ بشار ورامي، وما تلا ذلك من عمليات تدقيق في حسابات شركة "سيريتل للاتصالات"، ووضع اليد على إدارتها، وتحجيم "جمعية البستان" وحلّ مليشياها المسلحة، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إلقاء الحجز الاحتياطي على أموال مخلوف، وتغريمه صراحة، بقرار صادر عن هيئة رسمية.
كما طال الحجز الاحتياطي وبشكل منفصل رجل الأعمال أيمن جابر، "صهر العائلة الحاكمة"، والمقرب من الروس، ومؤسس مليشيا "مغاوير البحر" و"صقور الصحراء" المحلولة، وصاحب مصنع البراميل المتفجرة. وكان أيمن جابر قد تعرض منذ منتصف العام 2018 لعملية تقليم أمنية ومالية، نجم عنها تحجيمه وغيابه بشكل كبير عن دائرة الفعل، بعدما قيل عن نزاع شخصي بينه وبين متنفذين من آل الأسد. لكنه، كحال رامي مخلوف، لأول مرة يخضع لمساءلة ذات طابع قانوني.
وأصدرت وزارة المالية، 538 قراراً بالحجز الاحتياطي على أموال 10,315 شخصاً، بحسب موقع "الاقتصادي"، منذ بداية العام 2019 وحتى نهاية أيلول منه، وسجلت قيمة الأموال التي تمت المطالبة بها عبر هذه القرارات 1.8 مليار ليرة. والحجز الاحتياطي "إجراء احترازي يفرض عندما يوجد شك بوقوع فساد في مكان معين أو لدى أشخاص محددين، وتتوفر مستندات أولية بذلك، وتكون مدته 8 أيام، حيث ترفع الدعوى خلال هذه المدة، وبعدها تقرر المحكمة التمديد أو إلغاء الحجز".
والمُشترك في قضيتي جابر ومخلوف، هو إخضاعهما لأول مرة لغرامات مالية، بشكل يحمل طابعاً قانونياً، رغم سلوك المقاصصة التشبيحي المتبع لدى النظام. واللافت في حيثيات القرارات الصادرة بحق جابر ومخلوف، هو أنها لم تذكر صراحة من أملاكهما سوى شركتي نفط مسجلتين قانونياً في لبنان، ما يوحي بأن الغرامات تتعلق فقط بهذين الكيانين الاقتصاديين.
والشركتان هما "شركة آبار بتروليوم سيرفيسز ش.م.ل" اوف شور، التابعة لرامي مخلوف، وهي مسجلة في بيروت، ولها مقر في دمّر بدمشق، و"شركة الجزيرة المتحدة للنقل العام وتجارة المشتقات النفطية والخدمات النفطية ش.م.ل" أوف شور، التابعة لأيمن جابر، وعنوانها لبنان بيروت جادة سامي الصلح، بناء شاهين، والمسجلة في بيروت.
من جهة أخرى، كان لرجل الأعمال محمد حمشو، نصيب في الغرامات المالية بشكل غير صريح، بعد أن كشف بيان لـ"الهيئة العامة للرقابة والتفتيش" عن مضمون "تسوية" في قضية فساد لوزارة التربية يتصدرها وزير التربية السابق هزوان الوز، ويقبع في خلفية المشهد حمشو، بوصفه صاحب الجهة المُنفذة. ويتضمن البيان موافقة الجهة المتعهدة، على دفع غرامات للخزينة العامة تقدر بـ90 مليار ليرة، وفق جدول زمني يبتدئ بـ20 ملياراً نقداً.
وفي كل ذلك، يتصرف النظام كالتاجر المفلس، الذي يسعى عبر البحث في دفاتره القديمة، لفتح ملفات مالية لأهم رجالاته ونخبه الاقتصادية. ويُحقق ذلك، جملة من الأهداف الاقتصادية والسياسية والإعلامية، ومن أهمها رفد خزائن النظام الخاوية بأي مردود ممكن في محاولة منه للتغلب على أزمته الاقتصادية الخانقة التي يعيشها حالياً، وتتجلى آثارها الكبيرة في انخفاض سعر الليرة، وارتفاع العجز بالتزامن مع انخفاض وارداته التي قد تنعدم كليا بعد إقرار "قانون قيصر".
وفي المنحى ذاته، يحاول النظام من خلال تلك القرارات تحصين شرعيته الاقتصادية المتهالكة، عبر الإيحاء بأن سبب الأزمات يعود إلى الممارسات والسلوكيات الخاطئة وغير القانونية لبعض الشخصيات والنخب الاقتصادية، التي استغلت الظرفين الحربي والأمني لمنافع ذاتية. وهو بتلك القرارات ينأى بنفسه عن تلك الممارسات "الشاذة" ويضع نفسه على مسافة أمان منها، بمقدار ما "يسعى" إلى تصويبها.
وفيما يحاول النظام ترتيب أوراقه الاقتصادية المأزومة وفق الواقع الجديد، فإنه يعمل على استثمار قراراته إعلامياً في أوساط حاضنته، لامتصاص نقمتها المتزايدة. فالقرارات تمهد لاستعادة زمام الأمور عبر الإيحاء بإخضاع الجميع لسلطة القانون، بغض النظر عن هوية المخالف أو قربه من النظام مالياً أو عائلياً، أو حتى سياسياً.
وفي الوقت الذي تبدو فيه قرارات الحجز محمولة على منفعة مادية مباشرة أو ذات صلة بتلميع النظام داخليا وخارجياً، أو حتى لأهداف تنفيسية للشارع، فإنها تبدو كمنفعة متبادلة بين النظام والمحجوز عليهم من رجال أعمال النظام، من خلال شرعنة المتبقي من ثرواتهم بعد اقتطاع جزء منها على شكل غرامات.
لكن محاولات النظام تصطدم واقعياً بالوضع الداخلي الذي يمضي نحو مزيد من التأزم الاجتماعي والتآكل الاقتصادي المحمول على مفارقة إضافية ترهق السوريين وتتجلى في ارتفاع الأسعار المستمر، بما يتجاوز ارتفاع سعر الصرف. ولا يبدو أن هذا المسار قابل للعكس. فالمشكلة لا تتعلق بالفاسدين من زبانية النظام، لا بل ببنية الفساد والاقصاء، التي يمثل النظام جوهرها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها